معاني القرآن للفراء - الفراء  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

وقوله : { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ } فغير منصوبة لأنها نعت للقوم ، وهم معرفة و ( غير ) نكرة فنُصبت على الفعل ؛ كقوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ } ولو خفضت { غَيْرَ ناظِرِينَ } كَانَ صَوَاباً ؛ لأنَّ قبلَها { طعامٍ } وهو نكرة ، فتجعل فعلهم تابعاً للطعام ؛ لرجوع ذكر الطعام في ( إناهُ ) كَما تقول العرب : رأيت زيداً مع امرأة محسنٍ إليها ، ومحسنا إليها . فمن قال : { محسنا } جعله من صفة زيد ، ومَن خفضه فكأنه قال : رأيت زيداً مع التي يُحْسن إليها . فإذا صَارت الصلة للنكرة أتبعتها ، وإن كان فعلاً لغيرها . وقد قال الأعشى :

فقلت له هذه هاتِها *** فجاء بأدماء مقتَادِها

فجعل المقتاد تابعَا لإعراب الأدماء ؛ لأنه بمنزلة قولك : بأدماء يقتادها ؛ فخفضته لأنه صلة لها . وقد ينشد بأدماء مقتادِها تخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد . ومعناه : بملء يَديْ من اقتادها ومثله في العربية أن تقول : إذا دعوتَ زيداً فقد استغثت بزيدِ مستغِيثِه . فمعنى زيد مدح أي أنه كافي مسْتغيثِه . ولا يجوز أن تخفض على مثل قولك : مررت على رجل حَسَنِ وجهه ؛ لأن هذا لا يصلح حتى تسقط راجع ذكر الأول فتقول : حسن الوجه . وخطأ أن تقول : مررت على امرأة حسنِة وجهِها وحسنِة الوجه صواب .

وقوله : { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ } في موضع خفض تُتبعه الناظِرين ؛ كما تقول : كنت غير قائم ولا قاعدٍ ؛ وكقولك للوصيّ : كُلْ من مال اليتيم بالمعروف غيرَ متأثّل مالا ، ولا واقٍ مالكَ بماله . ولو جعلت المستأنسينَ في موضع نصب تتوهَّم أن تُتبعهُ بغير لما أن حُلْت بينهما بكلام . وكذلك كلّ معنىً احْتمل وجهين ثم فرّقت بينهما بكلام جَاز أن يكون الآخر معرباً بخلاف الأوَّل . من ذلك قولكَ : ما أنت بمحسن إلى مَن أحسن إليك ولا مُجْمِلاً ، تنصب المُجْمِل وتخفضه : الخفضُ على إتباعه المحسن والنصبُ أن تتوهم أنك قلت : ما أنت مُحسنا . وأنشدني بعض العرب :

ولستُ بذي نَيْربٍ في الصديق *** ومناعَ خَيرٍ وسبّابها

ولا من إذا كان في جانب *** أضاع العشيرة واغتابها

وأنشدني أبو القماقم :

أجِدُّكَ لستَ الدهرَ رائىَ رامةٍ *** ولا عاقلٍِ إلاّ وأنت جَنيب

ولا مصعدٍ في المُصْعدين لمَنْعِجٍ *** ولا هابطاً ما عشت هَضْب شَطِيب

وينشد هذا البيت :

مُعَاوِيَ إننا بَشَرٌ فَأَسجحْ *** فلسنا بالجبالِ ولا الحديدَا

وينشد ( الحديدا ) خفضاً ونصباً . وأكثر ما سمعته بالخفض . ويكون نصب المسْتأنسينَ على فعْلٍ مضمرٍ ، كأنه قال : فادخلوا غير مستأنسينَ . ويكون مع الواو ضميرُ دخولٍ ؛ كما تقول : قم ومطيعاً لأبيك .

والمعنى في تفسير الآية أنّ المسْلمينَ كانوا يدخلون على النبيّ عليه السلام في وقت الغَدَاء ، فإذا طعِمُوا أطالوا الجلوس ، وسَألوا أزواجَهُ الحوائج . فاشتدّ ذلك على النبيّ صَلى الله عليه وسلم ، حَتّى أنزل الله هذه الآية ، فتكلّم في ذلكَ بعضُ الناس ، وقال : أننهي أن ندخل على بناتِ عَمِّنا إلاّ بإذنٍ ، أو من وَراء حجَاب . لئِنَ مات محمد لأتَزوّجَنّ بعضهنّ . فقام الآباء أبو بكرٍ وذووه ، فقالوا : يا رسول الله ، ونحن أيضاً لا ندخل عليهنّ إلاّ بإذنٍ ، ولا نسألهنّ الحوائج إلاّ من وراء حجاب ، فأنزل الله { لاَ جُناحَ عَلَيْهِنَّ في آبائهنّ } إلى آخر الآية . وأنزل في التزويج { وَما كَانَ لَكُمْ أَنْ تَؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً } .