السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

ولما ذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في قوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً } ( الأحزاب : 45 ) ذكر حالهم معه من الاحترام له صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي : ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن { لا تدخلوا بيوت النبي } أي : الذي تأتيه الأنباء من علام الغيوب مما فيه رفعته في حال من الأحوال أصلاً { إلا } في حال { أن يؤذن لكم } أي : ممن له الإذن في بيوته صلى الله عليه وسلم منه ، أو ممن يأذن له في الدخول بالدعاء { إلى طعام } أي : أكله حال كونكم { غير ناظرين } أي : منتظرين { إناه } أي : نضجه وهو مصدر أنى يأني ، وقرأ هشام وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح .

ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً وكان يراد تقييده قال تعالى : { ولكن إذا دعيتم } أي : ممن له الدعوة { فادخلوا } أي : لأجل ما دعاكم له ثم تسبب عنه قوله تعالى : { فإذا طعمتم } أي : أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً { فانتشروا } أي : اذهبوا حيث شئتم في الحال ولا تمكثوا بعد الأكل أو الشرب لا مستريحين لقرار الطعام { ولا مستأنسين لحديث } أي : طالبين الأنس لأجله .

فائدة : قال الحسن : حسبك بالثقلاء أن الله لم يتجوز في أمورهم ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : حسبك بالثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم .

ثم علل ذلك بقوله تعالى : مصوباً الخطاب إلى جميعهم معظماً له بأداة البعد { إن ذلكم } أي : الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ { كان يؤذي النبي } أي : الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين ، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه ، ثم تسبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم له بما يزيد أذاه بقوله تعالى : { فيستحيي منكم } أي : بأن يأمركم بالانصراف { والله } أي : الذي له جميع الأمر { لا يستحيي من الحق } أي : لا يفعل فعل المستحيي فيؤدّيه ذلك إلى ترك الأمر به .

تنبيه : قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك : «أنه كان ابن عشر سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال : فكانت أمهاتي توطنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم وأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى إذا بلغ حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر ونزلت آية الحجاب ، وقال أبو عثمان : واسمه الجعد عن أنس قال : فدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلى قوله تعالى { والله لا يستحيي من الحق } .

وروي عن ابن عباس : «أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية .

وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس قال : «بعثتني أم سليم برطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا ، وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش قال : فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنينه وهناه الناس فقالوا : الحمد لله أقر بعينك يا رسول الله فمضى حتى أتى عائشة فإذا عندها رجال قال : فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه قال : فأتيت أم سليم فأخبرتها فقال أبو طلحة : لئن كان كما قال ابنك ليحدثن أمر قال : فلما كان من العشي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا } الآية .

وروى البخاري وغيره عنه قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب فقالت لي أم سليم : لو أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية فقلت لها : افعلي فعمدت إلى تمر وأقط وسمن فاتخذت حيسة في برمة وأرسلت بها معي إليه فقال لي : ضعها ثم أمرني فقال : ادع لي رجالاً سماهم ، وادع لي من لقيت ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاص بأهله » وفي رواية الترمذي أن الراوي قال : قلت لأنس : كم كانوا قال : زهاء ثلثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله تعالى ، ثم يدعو عشرة عشرة يأكلون منه ويقول لهم : اذكروا اسم الله تعالى وليأكل كل رجل مما يليه حتى تصدّعوا كلهم عنها ، قال الترمذي : فقال لي : يا أنس ارفع فرفعت فما أدري حين وضعت كانت أكثر أو حين رفعت فخرج معي من خرج وبقي قوم يتحدثون فنزلت .

ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال تعالى : { وإذا سألتموهن } أي : الأزواج { متاعاً } أي : شيئاً من آلات البيت { فاسألوهن } أي : ذلك المتاع كائنين وكائنات { من وراء حجاب } أي : ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم ، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها { ذلكم } أي : الأمر العالي الرتبة { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } أي : من وسواس الشيطان والريب لأن العين وزيرة القلب فإذا لم تر العين لم يشته القلب ، فأما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر . روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة : «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح فكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله عز وجل الحجاب » ، وعن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاثة قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ( البقرة : 125 ) وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب ، قال : وبلغني ما آذين رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت أستقررهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدله الله تعالى أزواجاً خيراً منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت قال : فخرجت فأنزل الله تعالى { عسى ربه إن طلقكن أن يبدّله أزواجاً خيراً منكن } ( التحريم : 5 ) الآية .

ولما بين تعالى للمؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على ملاطفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وما كان } أي : وما صح وما استقام { لكم } في حال من الأحوال { أن تؤذوا رسول الله } فله إليكم من الإحسان ما يستوجب به منكم غاية الإكرام والإجلال فضلاً عن الكف عن الأذى فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك .

ولما كان قد قصر صلى الله عليه وسلم عليهن أحل له غيرهن وقصرهن الله عليه بقوله تعالى : { ولا أن تنكحوا } أي : فيما يستقبل من الزمان { أزواجه من بعده } أي : فراقه بموت أو طلاق سواء أدخل بها أم لا { أبداً } زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته ، ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن أزواجه في الجنة ، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها كما قاله ابن القشيري ، روي أن هذه الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى أن ذلك محرم ، وقال : { إن ذلكم } أي : الإيذاء بالنكاح وغيره { كان عند الله } أي : القادر على كل شيء { عظيماً } أي : ذنباً عظيماً .

فإن قيل : روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له . أجيب : بأن ذلك كان قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وقيل : لا تحرم غير الموطوءة لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر فهم برجمهما ، فأخبر بأنه صلى الله عليه وسلم فارقها قبل أن يمسها فترك من غير نكير ، فأما إماؤه صلى الله عليه وسلم فيحرم منهن الموطوءات على غيره إكراماً له بخلاف غير الموطوءات وقيل : لا تحرم الموطوءات أيضاً .