تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

الآية 53 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } يحتمل النهي وجهين :

أحدهما : لا تدخلوا بيوت النبي بغير إذن كما يدخل الرجل على أمه ، وإن كن هن كالأمهات لكم ، بغير إذن .

فيكون النهي عن الدخول في بيته نهيا عن الدخول بغير إذن كقوله : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } [ النور : 27 ] .

والثاني( {[16764]} ) : { لا تدخلوا بيوت النبي } ضيفا { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } إلا أن تدعوا إلى طعام لأن رسول الله ، كان إذا هيؤوا له شيئا من الطعام دعا أصحابه ، فيأكلونه . وكان لا يمسك ، ولا يدخر فضل الطعام لوقت آخر . فإذا نزل به ضيف ، ولم يكن عنده ما يقدم إليه ، استحيى ، وشق عليه ذلك . فنهوا عن الدخول عليه والنزول به ضيفا لما ذكرنا ، وأمروا بالانتظار إلى أن يدعوا إلى الطعام . فعند ذلك يدخلون عليه ، ويضيفونهم( {[16765]} ) .

فإن كان الأول ففيه بالحجاب والنهي عن الدخول بلا استئذان . وإن كان الثاني ففيه النهي عن النزول به ضيفا قبل أن يدعوا لما ذكرنا .

ويكون الأمر بالحجاب في قوله : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } .

وقال بعضهم : ذكر هذا لأن أناسا كانوا يتحينون طعام رسول الله ، وغذاءه ، فإذا حضر دخلوا عليه بغير إذن ، فجلسوا في بيته ينتظرون نضج الطعام وإدراكه . فنهوا عن ذلك . وكانوا إذا أكلوا ، وفرغوا منه ، جلسوا في بيته يتحدثون ، ويستأنسون ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالانتشار ، والخروج من عنده وعند نسائه . ولم يكن يحتجبن قبل ذلك منهم . فشق ذلك على النبي ، والله أعلم .

وجائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده لما كان لرسول الله أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها ، إما بينه وبين الله ، وإما( {[16766]} ) بينه وبين غيرهم من الناس ، فكانوا يشغلونه عن ذلك [ فنهوا عن ذلك ]( {[16767]} ) لذلك وإما( {[16768]} ) لما ذكر أهل التأويل من الحاجة له في أزواجه والخلوة بهن وقت القيلولة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إن ذلكم كان يؤذي النبي } الدخول عليه بغير إذن ، أو الانتظار لنضج الطعام وإدراكه ، أو الجلوس بعد فراغهم من الطعام والحديث ، أو ما كان .

وقوله تعالى : { فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق } ورسول الله أيضا كان لا يستحيي من الحق . لكنه يستحيي أن يقول لهم : اخرجوا من منزلي ، ولا تدخلوا علي ، ونحوه لما يفتح ذلك في الخلق : أن يقول الرجل لآخر : لا تدخل منزلي ، أو اخرج من منزلي ، لما يرجع ذلك إلى دناءة الأخلاق والبخل .

فلما أنزل الله تعالى الآية ، وأمر أن يقول لهم ما ذكر ، قال لهم ، وأخبرهم بذلك ، فلم يستحيي عند ذلك لما صار ذلك من حق الدين فرضا عليه لازما أن يعلمهم الآداب ، ويخبر عما يلزمهم من حق الدين ، وكان قبل ذلك في حق الملك وحق النفس . فلما أنزل الله الآية ، وأمر بذلك ، صار من حق الدين . لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والله لا يستحيي من الحق } أي لا يدع ، ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب ، وقد ذكرنا معناه في قوله : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا } الآية [ البقرة : 26 ] .

وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } .

وجائز أن يكون المعنى الذي يكون أطهر [ لقلوب الرجال غير المعنى الذي يكون أطهر ]( {[16769]} ) لقلوبهن . ذلك المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهم من الفجور والهم لقضاء الشهوة وما تدعوه النفس إليه ، وأطهر لقلوبهن من العداوة والضغينة لا الفجور وقضاء الشهوة .

وذلك أنهن [ قد عرفن أنهن ]( {[16770]} ) لا يحللن لغيره نكاحا لما اخترنه والدار الآخرة على الدنيا وزينتها ، وقد أوعدن بارتكاب الفاحشة العذاب ضعفين على ما ذكر( {[16771]} ) وذلك يمنعهن ، ويزجرهن عن ارتكاب ذلك .

فإذا كان كذلك ؛ فإذا عرفن من الداخلين عليهن والناظرين إليهن نظرة شهوة وقع في قلوبهن لهم العداوة /431-أ/ والضغينة . ويكون( {[16772]} ) السؤال من رواء الحجاب أطهر لقلوبكم من الفجور والريبة وأطهر لقلوبهن من العداوة والضغينة ، والله أعلم بذلك .

[ ويحتمل أن يكون المعنى ]( {[16773]} ) واحدا ، وهو الريبة والفجور لما مكن فيهن من الشهوات ، وركب فيهن من فضل الدواعي إلى ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } قال أهل التأويل : إن أزواج الرسول ، لما احتجبن بعد نزول آية الحجاب والنهي( {[16774]} ) عن الدخول عليهن والنظر إليهن ، قال رجل : أننهى أن ندخل على بنات عمنا وبنات عماتنا وبنات خالنا وبنات خالاتنا ؟ أما والله لئن مات لأتزوجن فلانة ، وذكر( {[16775]} ) امرأة من نسائه . فنزل { وما كان لكم } أي لا يحل لكم { أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } لكن هذا قبيح ، لا يحتمل أن [ يكون أحد ]( {[16776]} ) من الصحابة يقول ذلك ، أو واحد ممن صفا إيمانه ، وحسن إسلامه ، يخطر( {[16777]} ) بباله ذلك ، إلا أن يكون منافقا .

ويحتمل { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } في ما تقدم ذكره { ولا تنكحوا أزواجه من بعده } ابتداء نهي .

وجائز أن يكون : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } في نكاح أزواجه ، فيكون أذاهم رسول الله في نكاح أزواجه من بعده .

ولو كان لا يحل أزواجه للناس لما يذكر بعض أهل التأويل لأنهن أمهات لم يحتج إلى النهي عن نكاحهن بعده ؛ إذ لا أحد يقصد قصد نكاح الأم .

ولكن كان [ لا ]( {[16778]} ) يحل لهم ذلك ؛ وكان المعنى في ذلك ما ذكرنا من التعظيم والاحترام ، حتى نهاهم عن نكاح أزواجه من بعده ، وجعله في حرمة أزواجه على غيره بعد وفاته ، كأنه حي .

وكذلك جعله( {[16779]} ) في حق ماله وملكه في منع الميراث لوارثه ، كأنه حي ، لم يرث ماله وارثه ، بل جعله( {[16780]} ) باقيا أبدا على ملكه .

[ وكذلك جعله ]( {[16781]} ) في حق الرسالة والنبوة ، كأنه حي ؛ لم تنسخ شريعته بعد وفاته بشريعة أخرى كما نسخت شريعة الأنبياء الذين كانوا قبله ، وماتوا( {[16782]} ) ، بشريعة أخرى ، بل جعله ، كأنه حي ، في إبقاء شريعته إلى يوم القيامة .

فعلى ذلك جعله( {[16783]} ) في أزواجه ، كأنه حي ، في حرمة أزواجه في الآخرة .

وعلى ذلك يخرج تأويل قوله عندنا { خالصة لك من دون المؤمنين } [ الأحزاب : 50 ] أي هي لك خالصة ، لا تحل لأحد بعدك . فتكون زوجه( {[16784]} ) في الجنة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إن ذلكم كان عند الله عظيما } يحتمل أذى رسول الله نكاح أزواجه عند الله عظيما ، أو عظيما في العقوبة عند الله .


[16764]:في الأصل وم: ويحتمل.
[16765]:في الأصل وم: ويضيفونه.
[16766]:في الأصل وم: أو.
[16767]:من م، ساقطة من الأصل.
[16768]:في الأصل وم: أو.
[16769]:من م، ساقطة من الأصل.
[16770]:من م، ساقطة من الأصل.
[16771]:وهو قوله تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب:30].
[16772]:في الأصل وم: ويقول.
[16773]:من نسخة الحرم المكي، في م: أو أن يكون ذلك، ساقطة من الأصل.
[16774]:في الأصل وم: ونهوا.
[16775]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[16776]:في الأصل وم: أحدا.
[16777]:أدرج قبلها في الأصل وم: إن.
[16778]:ساقطة من الأصل وم.
[16779]:في الأصل وم: جعل.
[16780]:في الأصل وم: جعل.
[16781]:في الأصل وم: أزواجه وكذلك جعل.
[16782]:في الأصل وم: إذا ماتوا.
[16783]:في الأصل وم: جعل.
[16784]:في م: زوجته.