البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

في الصحيحين ، أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام من القوم من قام ، وقعد ثلاثة ، فجاء فدخل ، فإذا القوم جلوس ، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا ، وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزل عليه هذه الآية .

قال ابن عباس : كان ناس يتحينون طعامه ، عليه الصلاة والسلام ، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ، ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان يتأذى بهم ، فنزلت .

وأما سبب الحجاب ، فعمر قال : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البار والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت .

وقال مجاهد : طعم معه بعض أصحابه ، ومعهم عائشة ، فمست يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك عليه السلام ، فنزلت آية الحجاب .

ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة ، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي إلا إن كان عن إذن { إلى طعام غير ناظرين إناه } ، لا يجوز دخول بيوته ، عليه السلام ، إلا بإذن ، سواء كان لطعام أم لغيره .

وأيضاً فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام ، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى .

و { بيوت } : جمع ، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته .

و { إلا أن يؤذن } ، قال الزمخشري : { إلا أن يؤذن } في معنى الظرف تقديره : وقت أن يؤذن لكم ، و { غير ناظرين } : حال من { لا تدخلوا } ، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معاً ، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه . انتهى .

فقوله : { إلا أن يؤذن } في معنى الظرف وتقديره : وقت أن يؤذن لكم ، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح ، وقد نصوا على أن أنْ المصدرية لا تكون في معنى الظرف .

تقول : أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج ، ولا يجوز : أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج .

وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً ، فلا يجوز على مذهب الجمهور ، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى ، أو المستثنى منه ، أو صفة المستثنى منه : وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال ، أجازا : ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا ، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال .

وأما قوله : { إلا أن يؤذن لكم } ، فلا يتعين أن يكون ظرفاً ، لأنه يكون التقدير : إلا بأن يؤذن لكم ، فتكون الباء للسببية ، كقوله : { فأخرجنا به من كل الثمرات } أو للحال ، أي مصحوبين بالإذن .

وأما { غير ناظرين } ، كما قرر في قوله : { بالبينات والزبر } أرسلناهم بالبينات والزبر ، دل عليه { لا تدخلوا } ، كما دل عليه أرسلناهم قوله : { وما أرسلنا } .

ومعنى { غير ناظرين } فحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : ادخلوا بالإذن غير ناظرين .

كما قرر في قوله : { بالبينات والزبر } أي غير منتظرين وقته ، أي وقت استوائه وتهيئته .

وقرأ الجمهور : { غير } بالنصب على الحال ؛ وابن أبي عبلة : بالكسر ، صفة لطعام .

قال الزمخشري : وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير من هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز من إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقوله : هند زيد ضاربته هي . انتهى .

وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه ، يقال : أنى الطعام أنى ، كقوله : قلاه قلى ، وقيل : وقته ، أي غير ناظرين ساعة أكله .

وقرأ الجمهور : إناه مفرداً ؛ والأعمش : إناءه ، بمدة بعد النون .

ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا ، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا ، ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا .

{ ولا مستأنسين لحديث } : معطوف على { ناظرين } ، فهو مجرور أو معطوف على { غير } ، فهو منصوب ، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين .

وقيل : ثم حال محذوفة ، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين ، فيعطف عليه .

واللام في { لحديث } إما لام العلة ، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه ، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول ، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت .

واستئناسه : تسمعه وتوحشه .

{ إن ذلكم } : أي انتظاركم واستئناسكم ، { يؤذي النبي فيستحيي منكم } : أي من إنهاضكم من البيوت ، أو من إخراجكم منها بدليل قوله : { والله لا يستحيي من الحق } : يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه .

ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : { لا يستحيي من الحق } بمعنى : لا يمتنع ، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله : { فيستحيي منكم } .

وعن عائشة ، وابن عباس : حسبك في الثقلاء ، أن الله لم يحتملهم .

وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال : هنا أدب أدب الله به الثقلاء .

وقرأت فرقة : فيستحيي بكسر الحاء ، مضارع استحا ، وهي لغة بني تميم .

واختلفوا ما المحذوف ، أعين الكلمة أم لامها ؟ فإن كان العين فوزنها يستفل ، وإن كان اللام فوزنها يستفع ، والترجيح مذكور في النحو .

وقرأ الجمهور : بياءين وسكون الحاء ، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا .

{ ذلكم } ، أي السؤال من وراء الحجاب ، { أطهر } : يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء ، والنساء في أمر الرجال ، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة .

ألا ترى إلى قول الشاعر :

والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ساء مهجته *** لا مرحباً بانتفاع جاء بالضرر

وذكر أن بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب ؟ لئن مات محمد لأتزوجن فلانة .

وقال ابن عباس وبعض الصحابة : وفلانة عائشة .

وحكى مكي عن معمر أنه قال : هو طلحة بن عبيد الله .

قال ابن عطية : وهذا عندى لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه .

وفي التحرير أنه طلحة ، فنزلت : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } ، فتاب وأعتق رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحج ماشياً .

وروي أن بعض المنافقين قال : حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم سلمة بعده ، أي بعد سلمة ، وحفصة بعد خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا ؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه .

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب ثم رجعت ، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد تزوجها ولم يبن بها .

فصعب ذلك على أبي بكر وقلق ، فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنه لم يبن بها ، ولا أرخى عليها حجاباً ، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها .

فسكن أبو بكر ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها ، مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة ، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة ، ومنعه عمر .

وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } : عام في كل ما يتأذى به ، { ولا أن تنكحوا } : خاص بعد عام ، لأن ذلك يكون أعظم الأذى ، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته .

{ إن ذلكم } : أي إذايته ونكاح أزواجه ، { كان عند الله عظيماً } : وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله ، وإيجابه حرمته حياً وميتاً ، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه ، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه .

ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت ، لئلا تنكح من بعده ، وخصوصاً العرب ، فإنهم أشد الناس غيرة .

وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبَّل جارية كان يحبها في حكاية قال : تصوراً لما عسى أن يتفق من بقائها بعده ، وحصولها تحت يد غيره . انتهى .

فقال لما عسى ، فجعل عسى صلة للموصول ، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز .

وعن بعض الفقهاء ، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة ، فعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عملاً يلاحظ ذلك .