قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن{[43838]} وليمة زينبَ حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روى ابن شِهَابٍ{[43839]} قال : أخبرني أنسُ بنُ مالك أنه كان ابن عَشْرِ سنينَ فقدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال : فكانت أم هانئ تواظبُني على خدمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فخدمته عَشْر سنينَ وتوفي وأنا ابن عشرينَ فكنت أعلمَ الناس بشأن الحِجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مُبْتَنَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بزينبَ بنتِ جحشٍ أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروساً فدعا القوم وأَصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبَقِيَ رَهْطٌ منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المُكْثَ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمشيت حتى جاء عتبة حُجْرَة عائشةَ ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجَع فرَجَعْتُ معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرَجَع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه بالسِّتر - فأنزل الله الحجاب{[43840]} ، ( و ) قال أبو عثمان واسمه الجَعد{[43841]} عن أنس ( قال ) فدخل - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلى قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق }{[43842]} وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناسٍ من المسلمين كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذَّى بهم فنزلت الآية { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي }{[43843]} . وروى ابنُ شِهابٍ عن عروة عن عائشة أن أزواج{[43844]} النبي - صلى الله عيه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ باللَّيْلِ إذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِع{[43845]} وهو صَعِيدٌ{[43846]} أَفْيَحُ فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - احجبْ نِسَاءَكَ فلم يكن رسولُ الله يفعل فخرجت سَوْدةُ بنتُ زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من الليالي عشاءً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : قد عرفناك يا سَوْدَةُ حرصاً على أن تنزل آيةُ الحجاب فأنزل الله الحجاب ، وعن أنس قال{[43847]} : قال عمر : وافَقَنِي ربي في ثلاثة ، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله : { واتخذوا مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت يا رسول الله : إنه يدخل عليك البرُّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحِجاب فأنزل الله آية الحجاب قال : بلغني ما آذين{[43848]} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت أستقربهن واحدة واحدة قلت : والله لَتَنْتَبِهْنَ أوْ لَيُبَدِّلنَّه الله أزواجاً خَيْراً منْكُنَّ حتى أتيت على زينب فقالت : يا عُمَرُ : ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تَعِظَهُنَّ أنت قال : فخرجت فأنزل الله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ }{[43849]} الآية .
قوله : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } فيه أوجه :
أحدها : أنها في موضع نصب على الحال تقديره إِلاَّ مَصْحُوبِينَ بالإِذن{[43850]} .
الثاني : أنها على إسقاط باء السبب تقديره : «إلا بِسبِب الإذن لكم » كقوله «فَأَخْرَجَ بِهِ »{[43851]} أي بسببه{[43852]} .
الثالث : أنه منصوب على الظرف قال الزمخشري : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ } في معنى الظرف تقديره : إلا وقت أن يؤذن لكم و «غَيْرَ نَاظِرينَ » حال من «لاَ تَدْخُلُوا » وقع الاستثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وَقْتَ الإذْنِ ولا تدخلوا إلاَّ غَيْرَ ناظرين إناه{[43853]} ، ورد أبو حيان{[43854]} الأول بأن النحاة نصوا على أن «أنْ » المصدرية لا تقع مَوْقِعَ الظرف ، لا يجوز : «آتِيكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ » وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو : «آتِيكَ صِيَاحَ الدِّيكَ » ، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد «إلا » في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عَدَا هذا عند الجمهور{[43855]} ، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجازا «مَا قَامَ القوْمُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ضَاحِكِينَ »{[43856]} و «إلَى طَعَام » متعلق ب «يُؤْذَن » لأنه بمعنى إلاَّ أنْ يَدْعُوا إلى طعام{[43857]} ، وقرأ العامة غَيْرَ ناظرين - بالنصب على الحال - كما تقدم ، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه «يُؤْذَنَ » وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين{[43858]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «غَيْرِ » بالجر{[43859]} صفة لطعام واستضعفها الناس من أجل عدم بروز الضمير لجَرَيَانه على غير مَنْ هو له فكان من حقه أن يقال : غَيْرَ ناظرين إناه أنتم ، وهذا رأي البصريين{[43860]} ، والكوفيونَ يجيزون ذلك إن لم يُلْبِسْ كهذه{[43861]} الآية ، وقد تقدمت هذه المسألة وفروعها وما قيل فيها ، وهل{[43862]} هذا مختص بالاسم أو يجري في الفعل خلاف مشهور قلّ من يَضْبِطُهُ{[43863]} .
قوله : «إِنَاهُ » قرأ العامة «إِنَاهُ » مفرداً أي نضجه ، يُقَالُ : أنَى الطَّعامُ إنىً ، نحوُ : قَلاَهُ قلّى ، أي غير منتظرين إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِهِ{[43864]} ويقال : أنَى الحميمُ{[43865]} إذا انتهى حَرُّهُ ، وأنَى أَنْ يَفْعَلَ{[43866]} كَذَا أي حان إِنَى بكسر الهمزة مقصورةً ؛ وقرأ الأعمش «آناءه » جمعاً على أفْعَالٍ{[43867]} ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً والياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فصار في اللفظ «كآنَاء » من قوله : «وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ » وإن كان المعنى مختلفاً ، قال البَغَويُّ : إذا فتحت{[43868]} الهمزة مَدَدْتَ فقلت : الآناء وفيه لغتان أَنَى يأْنِي ، وآنَ يَئِينُ مثل : حَانَ يَحِين .
قوله : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ } أكلتم «فَانْتَشِرُوا » تفرقوا واخرجوا من منزله .
قال ابن الخطيب قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } إِما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره { لاَ تَدْخُلُوا } الى طعام { إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معنى{[43869]} : ولا تدخلوا إلا أ يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز{[43870]} فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدّخول ، وأما كونه{[43871]} لا يجوز إلا بإذن{[43872]} إلى طعام فلما تقدم في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يَتَحَيَّنُونَ حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم{[43873]} بغير إذن ، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديمَ والتأخيرَ خلافُ الأصل . وقوله : «إلى طعام » من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جازَ دخول بيته بإذنه إلى طعامه ، جاز دخوله إلى غير طعامه{[43874]} فإن غير الطعام يمكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يدعوه إلى الطعام ويَسْتَعِينُه{[43875]} في حوائجه ويعلمه ممِا عنده من العلوم مع زيادة الطعام{[43876]} فإن رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى العقل{[43877]} فيصير من باب : { فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ }{[43878]} أي لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يَتَهَيَّأ{[43879]} .
لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال : «إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ » من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] فلو جاء الرجل وعلم أنْ لا مانع في البيت من يكشف أو بحضور{[43880]} غير محرم أو علم خلو الدار من الأهل{[43881]} وهي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول وفي معنى البيت موضع مباح{[43882]} اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده{[43883]} .
قوله : { وَلاَ مُسْتَأنِسِينَ } يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على «غَيْر » أي لا تدخلوها غَيْرَ ناظِرينَ ولا مُسْتَأْنسين{[43884]} والمعنى ولا طالبين الأُنسَ لِلْحَديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فَنُهُوا عن ذلك .
قوله : «لِحَدِيثٍ » يحتمل أن تكون لام العلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضاً وأن تكون المقوية للعامل لأنه قرع أي ولا مستأنسين حديثَ أَهْل البَيْت أو غيرهم{[43885]} .
قوله : «إنَّ ذَلِكُمْ » أي إن انتظارَكم واسْتئنَاسَكم فأشير إِليهما إِشارة الواحد كقوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] أي إن المذكور .
قوله : «فيستحيي منكم » قرئ «لا يَسْتَحِي » بياء واحدة ، والأخرى محذوفة ، واختلف فيها هل هي الأولى أو الثانية وتقدم ذلك في البقرة ، وأنها رواية عن ابن كثير وهي لغة تميم يقولون اسْتَحَى يَسْتَحِي مثل : اسْتَقَى يستقي{[43886]} .
قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أن لا يترك تأديبكم وهذا إشارة إِلى أنّ ذلك حق وأدب ، ثم ذكر أدباً آخر فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَاءِ حِجَابٍ } أي من وراء سِتْر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأةٍ من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْتقِبة كانت أو غير مُنْتَقِبة { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } من الريب لأن العين روزنة{[43887]} القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب ، فأما وإن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر{[43888]} .
قوله : { وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } نزلت في{[43889]} رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لئن قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشةَ . قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة ابن عُبَيْد الله{[43890]} فأخبر اللَّه عز وجل - أن ذلك مُحَرَّم وقال : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } . وروى مَعْمَرٌ عن الزهري أن العالية بنتَ ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلاً وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس{[43891]} .