قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي : صفة الجنة ، كقوله تعالى : { ولله المثل الأعلى } [ النحل-60 ] أي : الصفة العليا ، { تجري من تحتها الأنهار } ، أي : صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها . وقيل : مثل صلة مجازها { الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار } . { أكلها دائم } أي : لا ينقطع ثمرها ونعيمها ، { وظلها } ، أي : ظلها ظليل ، لا يزول ، وهو رد على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفني . { تلك عقبى } أي : عاقبة { الذين اتقوا } يعني : الجنة ، { وعقبى الكافرين النار } .
أي : صفتها ونعتها ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : سارحة في أرجائها وجوانبها ، وحيث شاء أهلها ، يفجرونها تفجيرًا ، أي : يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا ، كما قال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [ محمد : 15 ] .
وقوله : { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } أي : فيها المطاعم{[15667]} والفواكه والمشارب ، لا انقطاع [ لها ]{[15668]} ولا فناء .
وفي الصحيحين ، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه قالوا : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال : " إني رأيت الجنة - أو : أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " . {[15669]} وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا أبو عَقيل ، عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر ، إذ تقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر . فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله ، صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه . فقال : " إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قِطْفًا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا يَنْقُصونَه " . {[15670]}
وروى مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، شاهدا لبعضه{[15671]} . وعن عتبة بن عبد السلمي : أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة ، فقال : فيها عنب ؟ قال : " نعم " . قال : فما عِظَم العنقود ؟ قال : " مسيرة شهر للغراب الأبقع{[15672]} ولا يفتر " . رواه أحمد . {[15673]} وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد ، عن عبادة بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثَوْبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " . {[15674]} وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يأكل أهل الجنة ويشربون ، ولا يمتخطون ولا يتغوّطون ولا يبولون ، طعامهم{[15675]} جُشَاء كريح المسك ، ويلهمون التسبيح والتقديس{[15676]} كما يلهمون النفس " .
رواه مسلم . {[15677]}
وروى الإمام أحمد والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن ثمامة{[15678]} بن عقبة{[15679]} سمعت زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم ، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ قال :نعم ، والذي نفس محمد بيده ، [ إن الرجل من أهل الجنة ]{[15680]} ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة " . قال : فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة ، وليس في الجنة أذى ؟ قال : " حاجة أحدهم رشح يفيض من جلودهم ، كريح المسك ، فيضمر بطنه " . {[15681]} وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فيخر بين يديك مشويا{[15682]}-{[15683]} .
وجاء في بعض الأحاديث : أنه إذا فُرغ منه عاد طائرًا كما كان بإذن الله تعالى .
وقد قال تعالى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 32 ، 33 ] وقال { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [ الإنسان : 14 ] .
وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } [ النساء : 57 ] .
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة شجرة ، يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها " ، ثم قرأ : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] .
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ، ليرغب في الجنة ويحذّر من النار ؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر ، قال بعده : { تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } كما قال تعالى : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] .
وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه : عباد الله{[15684]} هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من عبادتكم{[15685]} تقبلت منكم ، أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم ؟ { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ]{[15686]} والله لو عُجِّل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم ، أو ترغبون{[15687]} في طاعة الله لتعجيل دنياكم ، ولا تنافسون في جنة { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } رواه ابن أبي حاتم .
استئناف ابتدائي يرتبط بقوله : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم } [ سورة الرعد : 29 ] . ذُكر هنا بمناسبة ذكر ضدّه في قوله : { ولعذاب الآخرة أشق } [ الرعد : 34 ] .
والمثَل : هنا الصفة العجيبة ، قيل : هو حقيقة من معاني المثل ، كقوله تعالى : { ولله المثَل الأعلى } [ النحل : 60 ] ، وقيل : هو مستعار من المثَل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها .
وجملة { تجري من تحتها الأنهار } خبر عن { مَثَل } باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه ، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين ، كما يقال : صفة زيد أسمر .
وجملة { أكلها دائم } خبر ثان ، والأكل بالضم : المأكول ، وتقدم .
ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس ، كما قال تعالى : { وجنات ألفافاً } [ سورة النبأ : 16 ] ، وذلك من محامد الجنات وملاذّها .
وجملة { تلك عقبى الذين اتقوا } مستأنفة .
والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة ، والمعنى : تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله : { ويدرأون بالحسنة السيّئة إلى قوله فنعم عقبى الدار } [ سورة الرعد : 24 ] هي الجنة التي وعد المتّقون . وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم . وأول مراتب التقوى الإيمان . وجملة { وعقبى الكافرين النار } مستأنفة للمناسبة بالمضادة . وهي كالبيان لِجملة { ولهم سوء الدار } .