قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } قال أبو العالية في هذه الآية : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، وكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فأنزل الله هذه الآية : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم } أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم ، أي : ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها ، { كما استخلف الذين من قبلهم } قرأ أبو بكر عن عاصم : ( كما استخلف ) بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى : وعد الله . قال قتادة : كما استخلف داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء . وقيل : كما استخلف الذين من قبلهم أي : بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ، { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } أي : اختار ، قال ابن عباس : يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ، { وليبدلنهم } قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال ، وقرأ الآخرون : بالتشديد من التبديل ، وهما لغتان ، وقال بعضهم : التبديل تغيير حال إلى حال ، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه ، { من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني } آمنين ، { لا يشركون بي شيئاً } فأنجز الله وعده ، وأظهر دينه ، ونصر أولياءه ، وأبدلهم بعد الخوف أمناً وبسطاً في الأرض .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن الحكم ، أنبأنا النضر ، أنبأنا إسرائيل ، أنبأنا سعيد الطاهري ، أنبأنا محمد بن خليفة ، عن عدي بن حاتم قال : " بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ، فقال : يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ، قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعارطيء الذين قد سعروا البلاد ، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت : كسرى بن هرمز ، قال : كسرى بن هرمز ، لئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم ، فليقولن له : ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك ؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالاً وأفضل عليك ؟ فيقول : بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم ، قال عدي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة " ، قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه . وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار ، عن سعيد بن جمهان ، عن سفينة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً " ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشراً ، وعثمان اثني عشر ، وعلي ستا . قال علي : قلت لحماد : سفينة القائل لسعيد أمسك ؟ قال : نعم . قوله عز وجل : { ومن كفر بعد ذلك } أراد به كفران النعمة ، ولم يرد الكفر بالله ، { فأولئك هم الفاسقون } العاصون لله . قال أهل التفسير : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن نصر ، أنبأنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي ، أنبأنا إسحاق ابن إبراهيم بن عباس ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم ، فو الله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبداً ، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسلنه الله ثم لا يغمده عنكم ، إما قال : أبداً ، وإما قال : إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً .
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم{[21308]} . بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي : أئمةَ الناس والولاةَ عليهم ، وبهم تصلح{[21309]} البلاد ، وتخضع{[21310]} لهم العباد ، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . وله الحمد والمنة ، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها . وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة ، رحمه الله وأكرمه .
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند{[21311]} موته ، عليه الصلاة والسلام{[21312]} وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها ، وقتلوا خلقا من أهلها . وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها ، وتوفاه الله عز وجل ، واختار له ما عنده من الكرامة . ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياما تاما ، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [ عليهم السلام ]{[21313]} على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله . وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقَصَّر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية ، امتدت المماليك{[21314]} الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية . وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه . وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ؛ ولهذا ثبت في الصحيح{[21315]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زَوَى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها " {[21316]} فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل{[21317]} الله الإيمان به ، وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا .
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سَمُرَة قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني{[21318]} فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " كلهم من قريش " .
ورواه البخاري من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، به{[21319]} وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك ، وذكر معه أحاديث أخر{[21320]}
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش ، يَلُون فيعدلون . وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا ، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء ، وهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، رضي الله عنهم . ثم كانت{[21321]} بعدهم{[21322]} فترة ، ثم وُجِد منهم ما شاء الله ، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقت يعلمه الله . ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورًا وظلما .
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث سعيد بن جُمْهان ، عن سَفِينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[21323]} : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يكون ملكا عَضُوضا " {[21324]} .
وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } {[21325]} الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة{[21326]} نحوا من عشر سنين ، يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون ، لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فَغَيَّرُوا{[21327]} بذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من أصحابه{[21328]} قال : يا رسول الله ، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [ فيه ]{[21329]} السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة " . وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله ، عز وجل ، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا ، فأدخل [ الله ]{[21330]} عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشرط وغَيّروا ، فَغُيَّر بهم .
وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حق في كتابه ، ثم تلا هذه الآية .
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد .
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الأنفال : 26 ] .
وقوله : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] ، وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [ القصص : 5 ، 6 ] .
وقوله : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم ، حين وفد عليه : " أتعرف الحيرة ؟ " قال{[21331]} : لم أعرفها ، ولكن قد{[21332]} سمعت بها . قال : " فوالذي نفسي بيده ، ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى
تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " . قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " نعم ، كسرى بن هرمز ، وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد " . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن افتتح{[21333]} كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها{[21334]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبي سلمة ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب " {[21335]} .
وقوله : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس ، أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا{[21336]} أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل ، قال : " يا معاذ " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسَعْديك . قال : ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . [ ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك " ]{[21337]} . قال : " هل تدري ما حق الله على العباد " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " [ فإن ]{[21338]} حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا " . قال : ثم سار ساعة . ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : " فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك " ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة{[21339]} .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما . فالصحابة ، رضي الله عنهم ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل ، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم ، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب ، وأيدهم تأييدًا عظيما ، وتحكموا في سائر العباد والبلاد . ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر ، نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم{[21340]} القيامة " وفي رواية : " حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك{[21341]} " . وفي رواية : " حتى يقاتلوا الدجال " . وفي رواية : " حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون " . وكل هذه الروايات صحيحة ، ولا تعارض بينها .
الأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق تردّدُهم في عاقبة أمر المسلمين ، وخشيتُهم أن لا يستقر بالمسلمين المُقام بالمدينة حتى يغزوَهم المشركون ، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبَيّ : { لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذَلّ } [ المنافقون : 8 ] ، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدّلوا دينهم ، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله : { وإن تطيعوه تهتدوا } [ النور : 54 ] ، فيكون المعنى : وإن تطيعوه تهتدوا وتُنصروا وتأمنوا . ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضُعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين عن غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سبباً لنزول هذه الآية .
قال أبو العالية : مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويُمسون في السلاح . فقال رجل : يا رسول الله أمَا يأتي علينَا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال رسول الله : « لا تَغْبُرون ( أي لا تمكثون ) إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في المَلإ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة » . ونزلت هذه الآية .
فكان اجتماع هذه المناسبات سبباً لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصراً على إبدال خوفهم أمناً كما اقتضاه أثر أبي العالية ، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عِداد الأسباب .
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وَعْدهم بالأمن أن وَعَدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيهاً لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها . ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماء إلى التهيُّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك ، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم { وإن تطيعوه تهتدوا } [ النور : 54 ] ، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة ، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات .
والموصول عام لا يختص بمعيّن ، وعُمُومه عُرفي ، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة .
والخطاب في { منكم } لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد .
والتعريف في { الصالحات } للاستغراق ، أي عملوا جميع الصالحات ، وهي الأعْمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح ، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح .
فالصالحات جمع صالحة : وهي الخصلة والفَعلة ذات الصلاح ، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة . وقد تقدم في أول البقرة .
واستغراق { الصالحات } استغراق عرفي ، أي عَمِل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة ، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصَّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه ، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم ، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يُسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها .
والاستقامة في الخُويصَّة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام ، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به .
وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } [ النحل : 90 ] وقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله في سياق الذم : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] وقوله : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمّد : 22 ] . وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة ، وبين أصول المعاملات بين الناس .
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل .
وهذه التكاليف التي جعلها الله قِواماً لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها . وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع ، وجُعل الإيمان عمودها وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته . فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح ، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع ، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها . وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 105 107 ] يريد بذلك كله المسلمين . وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وقوله : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } في سورة الحج ( 38 ) .
فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سنناً وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم ، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد . ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم . ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً } وقد تقدم في سورة الإسراء ( 4 ، 5 ) .
والاستخلاف : جعلهم خلفاء ، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } وقد تقدم في سورة البقرة ( 30 ) . والسين والتاء للتأكيد . وأصله : ليخلفنهم في الأرض .
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطاً بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعاً بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع ، كما حكى تعالى قولَ موسى لبني إسرائيل : { وجعلكم ملوكاً } كما تقدم في سورة العقود ( 20 ) .
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعُها ، وأن الظرفية المدلولة بحرف ( في ) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامُها سكانه . والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى : { واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] .
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله : { ليستخلفنهم } دون تقييد بقوله : { في الأرض } ل { ليستخلفنهم } للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم الأرض . وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام . ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم . l وهذا اسخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان ، والفرس ، واليونان ، والرومان .
وعن مالك : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملاً في معنى المثنى .
وعن الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . ولعل هذا مراد مالك . وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل : يوسف ، وداود ، وسليمان ، وأنوشروان ، وأصحمة النجاشي ، ومُلكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي ، وذي القرنين ، وإسكندر المقدوني ، وبعض من ولي جمهورية اليونان .
وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافاً كاملاً كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة .
وجملة : { ليستخلفنهم } بيان لجملة : { وعد } لأنها عين الموعود به . ولما كانت جملةَ قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بياناً للأخرى .
وقرأ الجمهور : { كما استخلف } بالبناء للفاعل ، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم . وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون { الذين } نائب فاعل .
وتمكين الدين : انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه . استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبَّت المرسّخ ، وإذا كان متَّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل . وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله : « وإن هم أبوا ( أي إلا القتال ) فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ( أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد ) ولينفذنَّ الله أمره » .
وقوله : { لهم } مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله : { دينهم } لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقاً من مفعول الفعل ، فقدم { لهم } عليه للإيماء إلى العناية بهم ، أي بكون التمكين لأجلهم ، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله : { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك } [ الشرح : 1 ، 2 ] .
وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه : { الذي ارتضى لهم } ، أي الذي اختاره ليكون دينهم ، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضاً ليكونوا أتباع هذا الدين . وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم .
وإنما قال : { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } ولم يقل : وليؤمننهم ، كما قال في سابقَيْه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن ، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفاً ، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة . وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر .
وتنكير { أمناً } للتعظيم بقرينة كونه مبدّلاً من بعد خوفهم المعروف بالشدة . والمقصود : الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين .
وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة . وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي ، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم .
وقرأ الجمهور : { وليَبُدّلنهم } بفتح الموحدة وتشديد الدال . وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد .
وجملة : { يعبدونني } حال من ضمائر الغيبة المتقدمة ، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي . وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم ، أي وعدتُّهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك .
وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضاً بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون .
وجملة : { لا يشركون بي شيئاً } حال من ضمير الرفع في { يعبدونني } تقييداً للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره . وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفاً من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد .
وجملة : { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال .
والإشارة في قوله : { بعد ذلك } إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } والمعبر عنه في أول الآيات بقوله : { وعد الله الذين آمنوا } ، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق .
وصيغة الحصر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل .
ووصف الفاسقين له رشيق الموقع ، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق .