إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (55)

وقوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } استئنافٌ مقرِّرٌ لما في قوله تعالى : { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } من الوعد الكريمِ ومُعربٌ عنه بطريق التَّصريحِ ومبينٌ لتفاصيلِ ما أُجمل فيه من فنون السَّعاداتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّة التي هي من آثار الاهتداءِ ومتضمِّنٌ لما هو المرادُ بالطَّاعة التي نيطَ بها الاهتداءُ والمرادُ بالذين آمنُوا كلُّ من اتَّصف بالإيمان بعد الكُفر على الإطلاق من أيِّ طائفةٍ كان وفي أيِّ وقتٍ كان لا مَن آمنَ من طائفةِ المُنافقين فقط ولا مَن آمنَ بعد نزولِ الآيةِ الكريمةِ فحسب ضرورةَ عمومِ الوعد الكريم للكلِّ كافَّةً فالخطاب في منكم لعامَّةِ الكَفَرةِ لا للمنافقين خاصَّةً ومِن تبعيضيَّةٌ .

{ وَعَمِلُواْ الصالحات } عطفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّزِ الصِّلةِ وبه يتمُّ تفسيرُ الطَّاعةِ التي أُمر بها ورُتِّب عليها ما نُظم في سلك الوعدِ الكريمِ كما أُشير إليه . وتوسيطُ الظَّرف بين المعطُوفينِ لإظهار أصالةِ الإيمانِ وعراقتِه في استتباع الآثارِ والأحكامِ وللإيذانِ بكونِه أوَّلَ ما يُطلب منهم وأهمَّ ما يجبُ عليهم ، وأمَّا تأخيرُه عنهما في قولِه تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } فلأنَّ مِن هناك بيانيَّةٌ والضَّميرُ للذين معه عليه السَّلامُ من خُلَّصِّ المؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصَّالحةِ مثابرون عليهما فلا بُدَّ من ورود بيانِهم بعد ذكر نُعوتهم الجليلة بكمالِها ، هذا ومَن جعلَ الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللأُمةِ عُموماً على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ أوْ له عليهِ السَّلامُ ولمن معه من المُؤمنينَ خُصوصاً على أنَّها بيانيَّةٌ فقد نَأَى عمَّا يقتضيهِ سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه بمنازلَ ، وأبعدَ عمَّا يليقُ بشأنه عليه السَّلامُ بمراحلَ { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض } جوابٌ للقسم إمَّا بالإضمار أو بتنزيل وعدِه تعالى منزلةَ القسمِ لتحقُّق إنجازِه لا محالةَ أي ليجعلنَّهم خلفاءَ مُتصرِّفين فيها تصرُّفَ الملوكِ في ممالكهم أو خَلَفاً من الذين لم يكونُوا على حالهم من الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ .

{ كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } هم بنوُ إسرائيلَ استخلفهم عزَّ وجلَّ في مصرَ والشَّامَ بعد إهلاكِ فرعونَ والجبابرةِ أو هُم ومَن قبلهم من الأمم المؤمنةِ التي أُشير إليهم في قولِه تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ } إلى قوله تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ } ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكِّدٌ للفعل بعد تأكيدِه بالقسم وما مصدريةٌ أي ليستخلفنَّهم استخلافاً كائناً كاستخلافِه للذينَ من قبلِهم . وقرئ كما استُخلفَ على البناء للمفعول فليس العاملُ في الكاف حينئذٍ الفعل المذكور بل ما يدلُّ هو عليه من فعلٍ مبنيَ هو للمفعول جارٍ منه مجرى المطاوعِ فإنَّ استخلافَه تعالى إيَّاهم مستلزمٌ لكونِهم مستخلَفين لا محالة كأنَّه قيل : ليستخلفنَّهم في الأرض فيُستخلفُنَّ فيها استخلافاً أيْ مستخلفيَّةً كائنةً كمستخلفيَّةِ مَن قبلهم وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى :

{ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } ومن هذا القَبيلِ قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } على أحدِ الوجهينِ أي فنبتتْ نباتاً حسناً وعليه قولُ مَن قال : [ الطويل ]

وعضَّةُ دَهْرٍ يا ابنَ مَرْوَانَ لَم تَدَع *** مِن المَالِ إلا مُسحَتٌ أو مُجلَّفُ{[587]}

أي فلم يبق إلا مُسحتٌ الخ { وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ } عطفٌ على ليستخلفنَّهم منتظم معه في سلك الجوابِ وتأخيرُه عنه مع كونه أجلَّ الرَّغائبِ الموعودة وأعظمها لما أنَّ النُّفوسَ إلى الحظوظِ العاجلة أميلُ فتصدير المواعيد بها في الاستمالةِ أدخلُ والمعنى ليجعلنَّ دينَهم ثابتاً مُقرَّراً بحيثُ يستمرُّون على العمل بأحكامِه ويرجعون إليهِ في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون والتَّعبيرُ عن ذلك بالتَّمكينِ الذي هو جُعل الشَّيءِ مكاناً لآخرَ يُقال : مكَّن له في الأرضِ أي جعلها مقرًّا له ومنه قولُه تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض } ونظائرُه ، وكلمة في للإيذانِ بأنَّ ما جُعل مقرًّا له قطعةٌ منها لا كلُّها للدِّلالةِ على كمال ثبات الدِّين ورصانةِ أحكامِه وسلامتِه من التَّغييرِ والتَّبديلِ لابتنائه على تشبيهِه بالأرض في الثَّبات والقرار مع ما فيه من مُراعاةِ المُناسبة بينه وبين الاستخلافِ في الأرضِ . وتقديمُ صلةِ التَّمكينِ على مفعوله الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان كونِ الموعودِ من منافعِهم تشويقاً لهم إليه وترغيباً لهم في قبوله عند ورودِه ولأنَّ في توسيطها بينَهُ وبينَ وصفِه أعني قوله تعالى : { الذي ارتضى لَهُمْ } وفي تأخيرِها عنه من الإخلالِ بجَزَالةِ النَّظمِ الكريم ما لا يَخْفى وفي إضافة الدِّين إليهم وهو دينُ الإسلامِ ثم وصفُه بارتضائه لهم تأليفٌ لقلوبِهم ومزيدُ ترغيبٍ فيه وفضلُ تثبيتٍ عليه .

{ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ } بالتَّشديدِ وقرئ بالتَّخفيفِ من الإبدالِ { مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ } أي من الأعداءِ { أمِناَ } حيثُ كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ عشرَ سنين بل أكثرَ خائفين ثم هاجرُوا إلى المدينةِ وكانوا يُصبحون في السِّلاحِ ويُمسون كذلك حتى قالَ رجلٌ منهم : ما يأتي علينا يومٌ نأمنُ فيه ؟ فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « لا تعبُرون إلاَّ يسيراً حتى يجلسَ الرَّجلُ منكم في الملإِ العظيمِ مُحتبياً ليس معه حديدةٌ » فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ وأنجز وعدَه وأظهرَهم على جزيرةِ العربِ وفتح لهم بلادَ الشَّرقِ والغربِ وصاروا إلى حالٍ يخافُهم كلُّ مَن عداهُم . وفيه من الدِّلالةِ على صحَّة النُّبوةِ للإخبارِ بالغيبِ على ما هُو عليه قبل وقوعِه ما لا يخفى . وقيل : المرادُ الخوفُ من العذابِ والأمنُ منه في الآخرةِ { يعبدونني } حالٌ من الموصول الأوَّلِ مفيدةٌ لتقييد الوعد بالثَّباتِ على التَّوحيدِ ، أو استئنافٌ ببيانِ المُقتضي للاستخلافِ وما انتظم معه في سلكِ الوعدِ { لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } حالٌ من الواوِ أي يعبدوننِي غيرَ مشركين بي في العبادة شيئاً { وَمَن كَفَرَ } أي اتَّصف بالكُفر بأنْ ثبتَ واستمرَّ عليه ولم يتأثَّر بما مرَّ من التَّرهيب والتَّرغيبِ فإنَّ الإصرارَ عليه بعد مُشاهدةِ دلائلِ التَّوحيدِ كفرٌ مستأنفٌ زائدٌ على الأصل ، وقيل : كفرَ بعد الإيمانِ وقيل : كفرَ هذه النِّعمةَ العظيمةَ ، والأوَّلُ هو الأنسبُ بالمقامِ { بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد ذلك الوعدِ الكريمِ بما فُصِّل من المطالب العاليةِ المستوجبةِ لغاية الاهتمامِ بتحصيلها والسعيِ الجميلِ في حيازتِها { فَأُوْلَئِكَ } البُعداءُ عن الحقِّ التائهون في تيهِ الغَواية والضَّلال { هُمُ الفاسقون } الكاملون في الفِسق والخروجِ عن حُدودِ الكُفر والطُّغيانِ .


[587]:وهو الفرزدق في ديوانه (2/62)؛ وجمهرة أشعار العرب (ص880)؛ وجمهرة اللغة (ص386،1259)، وخزانة الأدب (1/237)، (8/ 543) ولسان العرب (2/ 41) (سحت)،(9/31) (جلف)، (8/382) (ودع) وبلا نسبة في شرح المفصل (1/31)، (10/103). وقد ورد في المعجم بلفظ "وعض زمان" بدل "وعضة دهر".