معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

{ يسبح لله ما في السماوات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير } قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً . وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافرا " . وقال جل ذكره { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً }( نوح- 27 ) .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد ، عن عبد الله بن أبي بكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وكل الله بالرحم ملكاً فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال : يا رب أذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه " . وقال جماعة : معنى الآية : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم ، فقال : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } كما قال الله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه }( النور- 45 ) والله خلقهم والمشي فعلهم . ثم اختلفوا في تأويلها : فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : { فمنكم كافر } في حياته مؤمن في العاقبة ، { ومنكم مؤمن } في حياته كافر في العاقبة . وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب . وقيل : فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه ، وهو مذهب الدهرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه . وجملة القول فيه : أن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسبا ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسبا ، فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار ، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته ، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه . وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } أي : هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده ، وسيجزيهم بها أتم الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

وقوله : { هو الذي خلقكم } تعديد نعمة ، والمعنى { فمنكم كافر } لنعمته في الإيجاد حين لم يوجد كافر لجهله بالله تعالى ، { ومنكم مؤمن } بالله ، والإيمان به شكر لنعمته ، فالإشارة في هذا التأويل في الإيمان والكفر هي إلى اكتساب العبد ، هذا قول جماعة من المتأولين ، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة »{[11131]} ، وقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها }{[11132]} [ الروم : 30 ] ، وكأن العبارة في قوله تعالى : { فمنكم } تعطي هذا ، وكذلك يقويه قوله : { والله بما تعملون بصير } . وقيل : المعنى «خلقكم منكم مؤمن ومنكم كافر » في أصل الخلق فهي جملة في موضع الحال ، فالإشارة على هذا في الإيمان والكفر هي إلى اختراع الله تعالى وخلقه ، وهذا تأويل ابن مسعود وأبي ذر ، ويجري مع هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أحدكم يكون في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة أربعين يوماً ، ثم يجيء الملك فيقول يا رب : أذَكَر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل ؟ فيكتب ذلك في بطن أمه »{[11133]} ، فقوله في الحديث : «أشقي أم سعيد » هو في هذه الآية : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ويجري مع هذا المعنى قوله في الغلام الذي قتله الخضر : ( إنه طبع يوم طبع كافراً ){[11134]} ، وما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال : «خلق الله فرعون في البطن كافراً وخلق يحيى بن زكرياء مؤمناً »{[11135]} وقال عطاء بن أبي رباح : فمعنى الآية : { فمنكم كافر } بالله { مؤمن } بالكوكب ، ومؤمن بالله كافر بالكوكب ، وقدم الكافر لأنه أعرف من جهة الكثرة ، وقوله تعالى : { بالحق } أي حين خلقها محقوقاً في نفسه ليست عبثاً ولا لغير معنى .


[11131]:رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله...}الآية.ورواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ:(ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة)، وفي رواية لمسلم(كل إنسان تلده أمه على الفطرة).
[11132]:من الآية (30) من سورة (الروم).
[11133]:أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي ذر رضي الله عنه، ولفظه كما في ابن جرير والدر المنثور:(إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب، فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ ما هو لاق"، وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله:{وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير}.
[11134]:أخرجه مسلم في القدر وفي الفضائل، وأبو داود في السنة، والترمذي في تفسير سورة الكهف، وأحمد في مسنده(5-119، 121)، ولفظه كما في صحيح مسلم، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا).
[11135]:ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا).