اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً{[56841]} .

وروى أبو سعيد الخدري قال : «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون ، فقال : " يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى : يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً " {[56842]} .

وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً ، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً »{[56843]} .

وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : «وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا »{[56844]} .

وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله قال : «إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ »{[56845]} .

قال القرطبي{[56846]} رحمه الله : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم ، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم ، وكذلك الكفر . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق ، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه . قاله الحسن .

وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين .

وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، والتقدير : «هُو الَّذي خَلقُكُمْ » ، ثم وصفهم فقال : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } كقوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] الآية ، قالوا : فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } ، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : «كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ »{[56847]} .

قال البغوي{[56848]} : وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً »{[56849]} .

وقال تعالى : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }[ نوح : 27 ] .

وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً ، فيقُولُ : أي : ربِّ نُطفَةٌ ، أي ربِّ علقَةٌ ، أي : ربِّ مُضغَةٌ ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا ، قال : ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى ؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فما الرِّزْقُ ؟ فما الأجلُ ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ » .

وقال الضحَّاك : فمنكم كافر في السِّر ، مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر ، كافر في العلانية كعمّار وذويه{[56850]} .

وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء ، كما جاء في الحديث{[56851]} .

قال القرطبي{[56852]} : وقال الزجاج{[56853]} - وهو أحسن الأقوال - : والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر ، وكُفره فعل له وكسبٌ ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكَسْب ، مع أنَّ الله خالق الإيمان ، والكافر يكفر ، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه ؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل ، ولا يليقان باللَّه تعالى ، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة{[56854]} .

وقيل : فمنكم كافر بأن الله خلقه ، وهو مذهب الدَّهْرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه .

قال ابن الخطيب{[56855]} : فإن قيل : إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [ خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ، فأي حكمة دعته إلى خلقهم ؟ ]{[56856]} .

فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم ، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك ، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة .


[56841]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/87) عن ابن عباس.
[56842]:ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (32438) من حديث ابن مسعود وله شاهد من حديث ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/343) وعزاه إلى ابن مردويه.
[56843]:أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/276) وأبو نعيم في أخبار أصفهان (2/190) وابن عدي في "الكامل" (6/276) من طريق أبي هلال الراسبي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/196) وقال: رواه الطبراني وإسناده جيد.
[56844]:تقدم.
[56845]:تقدم.
[56846]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن (18/88).
[56847]:تقدم.
[56848]:ينظر: معالم التنزيل 4/352.
[56849]:أخرجه مسلم (4/2052) كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (29/2661) والخطيب (6/148) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب مرفوعا.
[56850]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/88).
[56851]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/352) وينظر أيضا المصدر السابق.
[56852]:الجامع لأحكام القرآن 18/88.
[56853]:ينظر: معاني القرآن 5/179.
[56854]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/352) والقرطبي (18/88).
[56855]:ينظر التفسير الكبير 30/21.
[56856]:سقط من أ.