الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا . وروى أبو سعيد الخدري قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال : ( يولد الناس على طبقات شتى . يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا . ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا . ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا . ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا ) . وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا ) . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) . خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع .

وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار . وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ) . قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم . فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم . وكذلك الكفر . وقيل في الكلام محذوف : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق ، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه ، قاله الحسن . وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين . وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا . قالوا : وتمام الكلام " هو الذي خلقكم " . ثم وصفهم فقال : " فمنكم كافر ومنكم مؤمن " كقوله تعالى : " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه{[15038]} " [ النور : 45 ] الآية . قالوا : فالله خلقهم ؛ والمشي فعلهم . واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله " فمنكم كافر ومنكم مؤمن " . واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) الحديث . وقد مضى في " الروم " مستوفى{[15039]} . قال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه . وقال عطاء بن أبي رباج : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ، يعني في شأن الأنواء . وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال ، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر . وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه . ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جعل ، ولا يليقان بالله تعالى . وفي هذا سلامة من الجبر والقدر ، كما قال الشاعر :

يا ناظراً في الدين ما الأَمْرُ *** لا قدرٌ صحَّ ولا جبْرُ

وقال سِيلان : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر ؟ فقال : أمر تغالت فيه الظنون ، واختلف فيه المختلفون ، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه .


[15038]:راجع جـ 12 ص 290.
[15039]:راجع جـ 14 ص 24.