{ هو } أي : وحده { الذي خلقكم } أي : أنشأكم على ما أنتم عليه { فمنكم } أي : فتسبب عن خلقه لكم وتقديره { كافر } أي : عريق في صفة الكفر { ومنكم مؤمن } أي : راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً .
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال : تولد الناس على طبقات شتى ، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً ، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً ، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً » ، أي : وسكت عن القسم الآخر ، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً ، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : «وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة » قال القرطبي : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم ، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم ، وكذلك الكفر .
وقيل : في الكلام محذوف ، تقديره : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه ، قاله الحسن . وقال غيره : لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين ، وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، والتقدير : هو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } كقوله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء } [ النور : 45 ] ثم قال تعالى : { فمنهم من يمشي على بطنه } [ النور : 45 ] الآية . قالوا : فإنه خلقهم والمشي فعلهم ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » قال البغوي : وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع على الكفر » وقال تعالى : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] وروى أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «وكل الله بالرحم ملكاً ، فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها ، قال : يا رب ذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل ، فيكتب ذلك في بطن أمه » وقال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ ، كعمار وزيد . وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ، يعني : في شأن الأنواء كما جاء في الحديث . قال القرطبي : وقال الزجاج : وهو أحسن الأقوال .
والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له ، وكسب واختيار ، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له ، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته ، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه ، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه ، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى . قال البغوي : وهذا طريق أهل السنة ، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر .
قال الرازي : فإن قيل : إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم ؟ .
فالجواب : إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك ، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة { والله } أي : الذي له الإحاطة الكاملة { بما تعملون } أي : توقعون عمله كسباً { بصير } أي : بالغ العلم بذلك ، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم ، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية ، لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه ، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه ، ومتى زمانه فكيف ، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه ، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.