الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

{ هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } يعني : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } [ الحديد : 26 ] والدليل عليه قوله تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم . والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم أمماً ؛ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به .

فإن قلت : نعم ، إن العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم ؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد ؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا ؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل ؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد ؟ قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسناً ، وأن يكون له وجه حسن ؛ وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها .