قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } . قرأ أهل الحجاز والكسائي " السلم " ها هنا بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وفي سورة الأنفال بالكسر ، وقرأ أبو بكر والباقون بالفتح ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة و أبو بكر .
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام النضيري وأصحابه ، وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم في صلاتنا بالليل ؟ فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) أي في الإسلام ، قال مجاهد : في أحكام أهل الإسلام و أعمالهم كافة ، أي جميعاً ، وقيل : ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره .
وأصل السلم : السلم من الاستسلام والانقياد ، ولذلك قيل للصلح سلم ، قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والعمرة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال : قد خاب من لا سهم له .
قوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } . أي : آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره .
قوله تعالى : { إنه لكم عدو مبين } . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس الطحان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أخبرنا هاشم ، أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها فقال : " امتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيه ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله : أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، وعكرمة ، وقتادة ، والسُّدّي ، وابن زيد ، في قوله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الإسلام .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيعُ بن أنس : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الطاعة . وقال قتادة أيضًا : الموادعة .
وقوله : { كَافَّةً } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع ، والسّدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، وقتادة والضحاك : جميعًا ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر .
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ، كعبد الله بن سلام ، وثعلبة وأسَد بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا ، وأن يقوموا بالتوراة ليلا . فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها . وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه ، والتعويض عنه بأعياد الإسلام .
ومن المفسرين من يجعل قوله : { كَافَّةً } حالا من الداخلين ، أي : ادخلوا في الإسلام كلكم . والصحيح الأول ، وهو أنَّهم أمروا [ كلهم ]{[3718]} أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها . وقال{[3719]} ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } - كذا قرأها بالنصب - يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها .
وقوله : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : اعملوا الطاعات{[3720]} ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] ، و { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } قال مُطَرِّف : أغش عباد الله لعَبِيد الله الشيطان .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } { السلم } بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام . فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون . وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :
السلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا ، والخطاب للمنافقين ، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره . والخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها ، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب ، أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالتفرق والتفريق . { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 208 )
ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي " السلم " بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع( {[1947]} ) ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يقعان للإسلام وللمسالمة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : السِّلم بكسر السين الإسلام ، وبالفتح المسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة ، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة ، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها ، وأما أن يبتدىء بها فلا .
واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب ؟ فقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده ، ويستغرق { كافة } حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع( {[1948]} ) ، فتكون الحال من شيئين( {[1949]} ) ، وذلك جائز ، نحو قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله }( {[1950]} ) [ مريم : 27 ] ، إلى غير ذلك من الأمثلة .
وقال عكرمة : «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره » .
وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوارة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع فقط .
وقال ابن عباس : «نزلت الآية في أهل الكتاب » ، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام ، ومن يراها المسالمة يقول : أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية ، و { كافة } معناه جميعاً ، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها( {[1951]} ) ، وقيل : إن { كافة } نعت لمصدر محذوف ، كأن الكلام : دخله كافة ، فلما حذفت المنعوت بقي النعت حالاً ، وتقدم القول في { خطوات } ، والألف واللام في { الشيطان } للجنس ، و { عدو } يقع على الواحد والاثنين والجميع ، و { مبين } يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته( {[1952]} ) وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو ، لأن العرب تقول : بان الأمر وأبان بمعنى واحد .