اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

قوله : " السِّلْم " قرأ{[3152]} هنا " السَّلْم " بالفتح نافعٌ ، والكِسائيُّ ، وابنُ كثيرٍ ، والبَاقُونَ بالكَسْر ، وأمَّا التي في الأَنْفال [ آية 61 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه ، عَنْ عاصِمٍ ، والتي في القِتال [ آية : 35 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً ، وسيأتي . فقِيل : هَما بمعنىً ، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث ، قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ، وحَكَوْا : " بَنُو فُلانٍ سِلْمٌ ، وسَلْمٌ " ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ ، وهو الانقيادُ ، قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] الإسلامُ : إسلامٌ الهدى ، والسِّلْم على الصُّلْحِ ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى ؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]

دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا *** رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا{[3153]}

يُنْشَدُ بالكَسْرِ ، وقال آخرُ في المفتُوحِ : [ البسيط ]

شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَالِمُهَا *** فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ{[3154]}

فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم ، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل ، وقرأ{[3155]} الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ " السَّلَم " .

وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكَسْرِ الإِسلامُ ، وبالفتحِ الصلحُ .

قال أبُو عُبَيدة : وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ : السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ .

" كافةً " مَنْصُوبٌ على الحالِ ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ .

أظهرها : أنه الفاعلُ في " ادْخُلُوا " ، والمعنَى : ادخُلُوا السِّلْم جميعاً ، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ ، فإنَّ قولَكَ : " قام القومُ كافةً " بمنزلةِ : قَامُوا كلُّهم .

والثاني : أنه " السِّلْمُ " قالهُ الزَّمخشريُّ ، وأَبُوا البقاءِ{[3156]} ، قال الزمخشريُّ : ويَجُوزُ أن تكونَ " كافةً " حالاً من " السِّلْمِ " ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]

السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ *** والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ{[3157]}

على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها ، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ ، قال أَبُو حيَّان تَعْلِيلُه كونُ " كافةً " حالاً مِنَ " السِّلْم " بقولِه : " لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب " ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ التاءَ في " كَافَّة " ليست للتأنيثِ ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه ، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ ، كما صار قاطبةً وعامَّة ، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً .

فإذا قلت : " قامَ الناسُ كَافةً ، وقَاطِبةً " لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ ، كما لا يَدُلُّ عليه " كُلّ " و " جميع " .

والثالث : أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً : أَعْنِي فاعلَ " ادْخُلُوا " و " السِّلْم " فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين .

وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال : وتَسْتَغْرقُ " كافة " حنيئذٍ المؤمِنين ، وجميعَ أجزاءِ الشَّرْع ، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ مريم : 37 ] . ثم قال بعد كلامٍ : وكافةً معناه جميعاً ، فالمرادُ بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها .

وقوله : " نحو قوله فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه " يعني أنَّ " تَحْمِلُهُ " حالٌ مِنْ فاعِل " أَتَتْ " ومِنَ الهاء في " بِهِ " قال أبو حيَّان : " هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ " تَحْمِلُهُ " لا يحتمل شيئَيْن ، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما ، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما ، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ ؛ نحو قوله [ الطويل ]

وَعُلِّقْتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ *** وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ

صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا *** إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ{[3158]}

فصغيرَين حالٌ من فاعل " عُلِّقْتُ " ومِنْ " سَلْمَى " لأنك لو قُلْت : أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس : [ الطويل ]

خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا *** عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ{[3159]}

فنْمشِي حالُ من فاعل " خَرَجْتُ " ، ومِنْ " هَا " في " بِهَا " ؛ لأنَّك لو قلتَ : " أنا وهي نمشي " لصَحَّ ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ " نَمْشِي " حَالاً مِنْهُما ، كما تَقَدَّم ، و " تَجُرُّ " حالاً مِنْ " هَا " في " بِهَا " ، فقط ؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل " تَجُرُّ " خبراً عنهما ، لو قلتَ : " أنا وهي تَجرُّ " لم يَصِحَّ ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو " جارَّة " وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين ، لم يَصِحَّ ؛ فكذلك " تَحْمِلُهُ " لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين ، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما ، وأمَّا " كَافّة " فإنها بمعنى " جَمِيع " ، و " جمِيع " يَصِحُّ فيها ذلك ، لا يُقالُ : " كَافَّة " لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً ، لو قلتَ : " الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً " لم يجزْ ، فلذلك لا تقعُ حالاً ؛ على ما قَرَّرتُ ؛ لأنَّ ذلك إِنَّما هو بسبب التزام نصب " كافةً " على الحال ، وأنها لا تتصرَّفُ لا مِنْ مانعِ معنوي ، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو " جَمِيع " و " كُلّ " يُخْبَرُ به ، فالعارِضُ المانِعُ ل " كافَّة " من التصرُّفِ لا يَضُرُّ ، وقولُه : " الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِفيها " يعني : أَنَّها في الأصْلِ كذلك ، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ " .

واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ " كافة " اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ ، أي : مَنَع ، ومنه " كَفُّ الإِنسانِ " ؛ لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه ، و " كِفّة المِيزَانِ " لجمعها الموزون ، ويقالُ : كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء ، أي : منعتُه ، ورجل مَكْفُوفٌ ، أي : كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْ يبصر ، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ ، وبالكَسْرِ ، لكلِّ مُسْتدِير .

وقيل : " كافة " مصدرٌ كالعاقبة والعافية . وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ .

فصل

لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ ، وكافِرٍ ، ومُنَافِق قال هاهنا : كُونَوا على مِلَّة واحدة ، على الإسلام ، واثْبتُوا عليه .

قال ابنُ الخطيب{[3160]} : حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ ، وفيه إِشكالٌ ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في الإِسْلام ، والإِيمانُ هو الإسلامُ ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً .

أحدها : أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ ، والتقديرُ : يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام ، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ ، أي آثار تَزيينه ، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ ، واحتجوا على هذه بالآيةِ ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ }

" الآية " فلمَّا وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق .

وثانيها : رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتْ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب ك " عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ " وأصحابِهِ ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل ، بعدما أَسْلَموا وقالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ : إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً{[3161]} [ أي : في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة ]{[3162]} ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة ، اعتقاداً له وعملاً به ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً ، وقائِلُ هذا القولِ جعل " كَافَّةً " من وصف " السِّلْم " ، كأنه قِيلَ : ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً .

وثالثها : أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } . أي : بالكتاب المتقدم { ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم ، وبمحمَّد ، وكتابهِ على التمامِ ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ : وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة{[3163]} .

قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ ، والمعنى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } بِمُوسَى وعِيسَى " ادْخُلُوا " فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَافَّةً {[3164]} " .

وَروى " مُسْلِمٌ " عن أبي هريرة ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ{[3165]} " .

ورابعها : أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ ، والمعنى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ{[3166]} .

قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ : الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم : الصلاةُ سهمٌ ، والزكاة سَهْمٌ ، والصدقةُ سَهْمٌ ، والحجُّ سَهْمٌ ، والعمرةُ سَهْمٌ ، والجهادُ سَهْم ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ ، وقد خاب مَنْ لا سهم له{[3167]} .

فإنْ قيل : المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له : دُمْ عَلَيْه ، ولا يقالُ لهُ : ادخُلْ فيه ، والمذكُور في الآيةِ هو قوله : " ادخلُوا " .

فالجوابُ : الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها ، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل ، وإن كان في الحال كائناً فيها ؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها ، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها ، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها .

وقال آخرُونَ : المراد ب " السِّلْم " في الآية الصُّلح ، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ ، والتقديرُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّةً " أي : كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا ، والمنازعةِ مع الناس ، فهو كقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران :103 ] .

قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : لاَ تُطِيعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه ، وتقدَّم الكلامُ على خطواته .

وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .

قال أبو مسلمٍ{[3168]} : مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره .

قال ابنُ الخطِيب{[3169]} : ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ الدخان : 1 - 2 ] ولا يعنى بقوله " مُبين " إلاَّ ذلك . فإن قيلَ : كيف يمكنُ وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ ، ولا نسمعُ كَلامَهُ ؟

فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه ، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين ، وإِنْ لم يشاهد ؛ مثالُه : مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال : إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال .

قال ابنُ الخطيبِ{[3170]} : وعندي فيه وجهٌ آخرُ ، وهو : أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع ، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض ، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه : أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه .

فإن قيلَ : كون الشيطان عَدُوّاً لنا ، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلامِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب ، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلامِ وليس كذلك .

والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ ؛ لأَنَّ مَنْ قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه ؛ لقولهِ : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ } [ إبراهيم : 11 ] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا ؟

فالجوابُ : أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا ، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك ، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه ، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ .


[3152]:- الصواب هنا العكس لا كما نقل المصنف، فقد قرأ نافع، والكسائي، وابن كثير: بفتح السين والباقون بالكسر. انظر: السبعة 181، والحة 2/292، وحجة القراءات 130، والعنوان 73، وشرح شعلة 288، وشرح الطيبة 4/95، 96، وإتحاف 1/435.
[3153]:- ينظر: الطبري 4/ 253، المؤتلف والمختلف (9)، والوحشيات (75)، الدر المصون 1/510.
[3154]:-ينظر: البحر 2/118، الدر المصون 1/510.
[3155]:-انظر الكشاف 1/252، والقرطبي 3/17، وحكاه عن البصريين.
[3156]:-ينظر الإملاء لأبي البقاء 1/90.
[3157]:- البيت للعباس بن مرداس ينظر: ديوانه (87)، الخزانة 2/82، حاشية يس 2/ 286، إصلاح المنطق 30، الكشاف 1/252، البحر 2/ 130، الدر المصون 1/510.
[3158]:- البيتان للمجنون ينظر: ديوانه ص 186، وخزانة الأدب 4/ 230، وأسرار العربية ص 190، وتذكرة النحاة ص 423، ومجالس ثعلب 2/600، والدر المصون 1/511.
[3159]:-ينظر: ديوانه ص 14، وخزانة الأدب 11/427، والدرر 4/10، وشرح التصريح 1/387، وشرح شواهد الشافية ص 286، وشرح شواهد المغني 2/652، 901، وشرح عمدة الحافظ ص 462، ولسان العرب (نير)، وأوضح المسالك 2/339، ورصف المباني ص 330، وشرح شافية ابن الحاجب 2/338، ومغني اللبيب 2/ 564، وهمع الهوامع 1/244، والدر المصون 1/511.
[3160]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 176.
[3161]:-أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/255-256) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه للطبري عن عكرمة.
[3162]:- سقط في ب.
[3163]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي5/176.
[3164]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/18.
[3165]:- تقدم.
[3166]:-ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 176.
[3167]:- انظر: تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (3/17-18) فقد ذكر هذا الأثر عن حذيفة بن اليمان.
[3168]:- ينظر:تفسير الفخر الرازي 5/178.
[3169]:- ينظر:تفسير الفخر الرازي 5/178.
[3170]:- ينظر:تفسير الفخر الرازي 5/178.