الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: معناه: الإسلام. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة. وقد اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز: «ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ» بفتح السين. وقرأته عامة قراء الكوفيين بكسر السين. فأما الذين فتحوا السين من «السلم»، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمسالمة وترك الحرب وإعطاء الجزية. وأما الذين قرأوا ذلك بالكسر من السين فإنهم مختلفون في تأويله؛ فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح.

وأولى التأويلات بقوله:"ادْخُلُوا فِي السّلْمِ" قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة.

وأما الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر السين لأن ذلك إذا قرئ كذلك وإن كان قد يحتمل معنى الصلح، فإن معنى الإسلام ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلب عليه من الصلح والمسالمة. وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر ما في القرآن من ذكر السلم بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصها بكسر سينها توجيها منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.

وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله: ادْخُلُوا فِي السّلْمِ وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدو الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين، إما أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمد المصدّقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربا بترك الحرب. فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له: صالح فلانا، ولا حرب بينهما ولا عداوة. أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدا ونبوّته، فقيل لهم: ادخلوا في السلم يعني به الإسلام لا الصلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى ذلك دعاهم دون المسالمة والمصالحة بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام، فقال: "فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ "وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعوه إلى الصلح ابتداء المصالحة، فقال له جل ثناؤه: "وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجنَحْ لَهَا"، فأما دعاؤهم إلى الصلح ابتداء فغير موجود في القرآن، فيجوز توجيه قوله: ادْخُلُوا فِي السّلْمِ إلى ذلك.

فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.

وقال آخرون: قيل: دعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.

فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟ قيل: وجه دعائه إلى ذلك الأمر له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله كافّةً من صفة السلم، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به... عن عكرمة قوله: "ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً" قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وشعبة بن عمرو وقيس بن زيد، كلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: "يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السّلْمِ كافةً وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ".

فقد صرّح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.

وقال آخرون: بل الفريق الذي دعي إلى السلم فقيل لهم ادخلوا فيه بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم الإيمان، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.

"كافّةً": عامة جميعا. "وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ": اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدوّ مبين لكم عداوته. وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تَسْبِيتُ السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فإن قيل: كيف أمروا بالدخول، وهم فيه، لأنه خاطب المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)؟ قيل بوجوه:

أحدها: أنه يحتمل قوله: {يا أيها الذين آمنوا} [آمنتم] بألسنتكم آمنوا بقلوبكم.

ويحتمل: {يا أيها الذين آمنوا} ببعض الرسل من نحو عيسى وموسى وغيرهما من الأنبياء آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل: أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه.

وقيل: إنه تعالى إنما أمرهم فيه لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت؛ لأنه فعل، والأفعال تنقضي، ولا تبقى، كأنه قال: {يا أيها الذين آمنوا} فيما مضى من الأوقات، آمنوا في حادث الأوقات. وعلى هذا يخرج تأويل قوله: {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، أمر المسلمين بما يضاد ذلك، وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه، فقال: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية.

ومن قال بهذا التأويل قال: هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها،

أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في صفة ذلك المنافق في قوله: {سعى في الأرض ليفسد فيها} وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين، فكأنه تعالى قال: دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون، والتقدير: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه، {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس، وهو كقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} وقال: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}...

{يا أيها الذين آمنوا} إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله: {ادخلوا في السلم كافة} إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله، فيصح أن يسمي تركها بالسلم، أو يكون المراد منه: كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات، وترك المحظورات، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر.

وثانيها: أن يكون المراد من السلم كون العبد راضيا ولم يضطرب قلبه...

وثالثها: أن يكون المراد ترك الانتقام كما في قوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} وفي قوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية.

فقوله: {ادخلوا في السلم كافة} أي ادخلوا في شرائع الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئا من شرائعه، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحدا من أن لا يدخل فيه.

أما قوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} فالمعنى: ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره، ولا فرق بين ذلك وبين قوله: اتبعت خطواته. وخطوات جمع خطوة،

أما قوله تعالى: {إنه لكم عدو مبين} فقال أبو مسلم الأصفهاني: إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، وأقول: الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله:

{حم والكتاب المبين} ولا يعني بقوله مبينا إلا ذلك. فإن قيل: كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه. قلنا: إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله لذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله: من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال: إن فلانا عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال.

وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الأصل في الإبانة القطع، والبيان إنما سمي بيانا لهذا المعنى، فإنه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. فإن قيل: كون الشيطان عدوا لنا إما أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب، والأول باطل، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإن كان الثاني فهو أيضا باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} إذا ثبت هذا فكيف يقال: إنه عدو مبين العداوة، والحال ما ذكرناه؟. الجواب: أنه عدو من الوجهين معا أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك، وليس يلزم من كونه مريدا الإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرا عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثواب، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ختم هذين القسمين بالساعي في رضى الله عنه مشاكلة للأولين حسن جداً تعقيبه بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} ليكون هذا النداء واقعاً بادئ بدء في أذن هذا الواعي كما كان المنافق مصدوعاً بما سبقه من التقوى والحشر مع كونه دليلاً على صفة الرأفة.

وتكرير الأمر بالإيمان بين طوائف الأعمال من أعظم دليل على حكمة الآمر به فإنه مع كونه آكد لأمره وأمكن لمجده وفخره يفهم أنه العماد في الرشاد الموجب للإسعاد يوم التناد فقال: {ادخلوا في السلم} أي الإيمان الذي هو ملزم لسهولة الانقياد إلى كل خير، وهو في الأصل بالفتح والكسر الموادعة في الظاهر بالقول والفعل أي يا من آمن بلسانه كهذا الألد ليكن الإيمان أو الاستلام بكلية الباطن والظاهر ظرفاً محيطاً بكم من جميع الجوانب فيحيط بالقلب والقالب كما أحاط باللسان ولا يكون لغرامة الجهل وجلافة الكفر إليكم سبيل {كآفة} أي وليكن جميعكم في ذلك شرعاً واحداً كهذا الذي يشري نفسه، ولا تنقسموا فيكون بعضكم هكذا وبعضكم كذلك الألد، فإن ذلك دليل الكذب في دعوى الإيمان.

ولما كان الإباء والعناد الذي يحمل عليه الأنفة والكبر فعل الشيطان وثمرة كونه من نار قال: {ولا تتبعوا} أي تكلفوا أنفسكم من أمر الضلال ضد ما فطرها الله تعالى عليه وسهله لها من الهدى {خطوات الشيطان} أي طرق المبعد المحترق في الكبر عن الحق.

قال الحرالي: ففي إفهامه أن التسليط في هذا اليوم له، وفيه إشعار وإنذار بما وقع في هذه الأمة وهو واقع وسيقع من خروجهم من السلم إلى الاحتراب بوقوع الفتنة في الألسنة والأسنة على أمر الدنيا وعودهم إلى أمور جاهليتهم، لأن الدنيا أقطاع الشيطان كما أن الآخرة خلاصة الرحمن، فكان ابتداء الفتنة منذ كسر الباب الموصد على السلم وهو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلم يزل الهرج ولا يزال إلى أن تضع الحرب أوزارها.

ثم علل ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {إنه لكم عدو مبين} أي بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما شواهده ظاهرة، وما أحسن هذا الختم المضاد لختم التي قبلها! فإن تذكر الرأفة منه سبحانه على عظمته والعبودية منا الذي هو معنى الولاية التي روحها الانقياد لكل ما يحبه الولي وتذكر عداوة المضل أعظم منفر منه وداع إلى الله سبحانه وتعالى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد ما بين عز وجل اختلاف الناس في الصلاح والفساد والإصلاح والإفساد أراد أن يهدينا إلى ما يجمع البشر كافة على الصلاح والسلام، والوفاق الذي قرره الإسلام، وهو ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعل هذه الهداية بصيغة الأمر وشرف أهل الإيمان به فقال: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} وأقول إن أساسها الاستسلام لأمر الله والإخلاص له، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب والقتال بين المهتدين به.

واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام، والأمر بالدخول فيه يشعر بأنه حصن منيع للداخلين في كنفه، وهو للكاملين منهم أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى: {يأيها النبي اتق الله} (الأحزاب: 1) ولمن دونهم أمر بالتمكن منه وتحري الكمال فيه...

هذه كلمة عظيمة، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلافة في الأمة، ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة ونفهم المراد من ذلك كله ونعمل به، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل،

ولو أنك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجه الذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم، وإن رجح بعضهم في تفسير غيره عليه لولوا منك فرارا، وأعرضوا عنك استكبارا، وقالوا مكر مكرا كبارا، إذ دعا إلى ترك المذاهب، وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد...

{ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} أي لا تسيروا سيره وتتبعوا سبله في التفرق في الدين أو الخلاف والتنازع مطلقا. وسبل الشيطان وخطواته هي كل أمر يخالف سبيل الحق والخير والمصلحة، وهي ما عبر عنه بالسبيل في قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام 153) فذَكَرَ تعالى أن له سبيلا واحدة سماها صراطا مستقيما لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وقد علم من جعل التفرق تابعا لاتباع سبل هي غير صراط الله أن الذين يتبعون سبيل الله لا يتفرقون: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (الأنعام: 159).

نعم قد يطرأ عليهم سبب الخلاف والتنازع ولكنهم متى شعروا بأن التنازع قد دب إليهم في أمر فزعوا إلى تحكيم الله ورسوله فيه برده إلى حكمهما، كما أمرهم بقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء: 59) أي مآلا وعاقبة فالآيات يفسر بعضها بعضا إذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أمرنا.

[ف] طريق الحق [إذن] هو الوحدة والإسلام، وطرق الشيطان هي مثارات التفرق والخصام، وهي معروفة في كل الأمم، ولكن الشيطان يزين طرقه ويسول للناس المنافع والمصالح في التفرق والخلاف، فقد كانت يهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد هو صراط الله فسول لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وطرقا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرفوا من كلمه ما حرفوا، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله، حتى حل بهم الهلاك والدمار، ومزقوا كل ممزق. وكذلك فعل غيرهم، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثروه، وواحدا فعددوه، وسهلا فصعبوه، فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم، حتى لم تغن عنهم كثرتهم، وسلط عليهم الأعداء، وأنزل بهم البلاء: {سنة الله التي قد خلت في عباده} (غافر: 85).

هذا هو المتبادر من خطوات الشيطان في هذا المقام. ومن خطواته طرق الفواحش والمنكرات كلها ولذلك قال تعالى: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفواحش والمنكر} (النور: 21) وأما كون الشيطان عدوا مبينا فذاك أن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان بين الضرر لمن تأمل وعقل، فمن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في غايتها، عند ما يذوق مرارة مغبتها، لاسيما بعد تذكير الله تعالى وهدايته عباده إلى ذلك، فلا عذر لمن بلغته هذه الهداية إذا بقي على ضلالته واستحب العمى على الهدى ولذلك قال عز شأنه {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا {فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه، تركه، بل الواجب أن يكون الهوى، تبعا للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه، من أفعال الخير، وما يعجز عنه، يلتزمه وينويه، فيدركه بنيته.

ولما كان الدخول في السلم كافة، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: في العمل بمعاصي الله {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} والعدو المبين، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وما به الضرر عليكم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص. يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان. إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.. وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.

وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.

والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.

وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته.. إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك -كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح. وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود. وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء. وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان. وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب.. وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام.. كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون. وبين الكون والإنسان.. فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة.

وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا. وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان!

والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء.. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.

والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.

ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.. حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وأما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق الله وإما طريق الشيطان. وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات. إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان.. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف على طريقة الاعتراض انتهازاً للفرصة بالدعوة إلى الدخول في السلم، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب، أعلاها {من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 207] لأن النفس أغلى ما يبذل، وأقلها {من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} [البقرة: 204] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ذلك أن يدعى الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.

و (الدخول) حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد، ويطلق مجازاً مشهوراً على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل. فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صح ذلك جاز أي يكون مراداً أيضاً ويكون من استعمال المشترك في معنييه.

فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم ب"يأيها الذين آمنوا" الذي هو كاللقب للمسلمين كان المعنى أَمْرَهم بالدخول في المسالمة دون القتال، وكما تقتضيه صيغة الأمر في (ادخلوا) من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلاً أو كان مُفرَّطاً في بعضه. فالذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين في تلك الآيات، استؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، لأن كثيراً من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن الخطاب فقد قال: ألسْنَا على الحق وعدُوُّنا على الباطل فكيف نعطي الدَّنية في ديننا رواه أهل « الصحيح» فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] إلى هنا.

ويجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حرباً لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات، ومناسبة ذكر هذا عقب ما تقدم أنهم لما أمروا بذكر الله كذكرهم آباءهم وكانوا يذكرون في موسم الحجِ ترَاثهم ويفخرون فخراً قد يفضي إلى الحمية، أمروا عقب ذلك بالدخول في السَّلم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" فتكون الآية تكملة للأحكام المتعلقة بإصلاح أحوال العرب التي كانوا عليها في الجاهلية، وبها تكون الآية أصلاً في كون السلم أصلاً للإسلام وهو رفع التهارج كما قال الشاطبي أي التقاتل وما يفضي إليه،

وإما أن يكون المراد من السَّلم هنا السلم مع الله تعالى مع معنى المجاز، أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته كما أطلق الحرب على المعصية مجازاً في قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279] وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي "من عادَى لي وَلِيّاً فقد آذنتُه بالحرب".

وقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم المأمور به بطريق النهي، عن خلاف المأمور به، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروفِ بأنه لا يشير بالخير، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شُعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عُمر « ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدَّنِيَّة في ديننا» وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين « أيها الناس اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله فِعْلَه لفَعَلْنا والله ورسوله أعلم» بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلاّ خيراً، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً تنبيهاً لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان،

وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السَّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام،

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والمعنى على هذا: يأيها الذين أمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم أن تدخلوا في السلام العام، فلا تنابذوا أحدا لم يعتد عليكم، ولا تقاتلوا من لم يرفع عليكم سيفا، ولم يوال عليكم عدوا، ثم قووا وحدتكم بالسلم الموثقة والإخاء الجامع.

والحقيقة أن الإسلام دعا إلى السلام وحث عليه، ومبدؤه العام التعارف بين بني الإنسان لا التنابذ بينهم، ولذا قال تعالى:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات 13) فما جاء الإسلام للحرب والخصام بل جاء بالهدى والسلام، ولكن سلام الإسلام سلام عزيز قوي، وليس بسلام ذليل خانع، والسلام القوي يرد الاعتداء بمثله،و لذلك لما اعتدى المشركون على المسلمين أباح الإسلام القتال وقال سبحانه: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39 الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز40} (الحج)

فما أباح الإسلام القتال إلا لدفع الاعتداء، وليس القتال لدفع الاعتداء إلا دعوة إلى السلام القوي الفاضل، وفرق ما بين السلم العزيزة القوية، وبين الذل والخضوع، أن السلام القوي هو القدرة على رد اعتداء المعتدين إن اعتدوا، أما الذل فهو الاستسلام والخضوع للمعتدين، وما بذلك أمر الإسلام، وليس هذا من السلام في شيء، بل هو إغراء بالقتل والقتال وتمكين لظلم الظالمين. وعبر عنه بخطواته لأن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لا تجر المرء إلى الشر دفعة واحدة، بل تأخذه إليه درجة درجة، فيبتدئ بأيسرها وأصغرها فيقتحمه من أغواه لصغره، حتى إذا ألفه جرأه على ما هو أكبر منه، ثم ما هو أكبر حتى تحيط بالنفس خطيئاتها، وتستغرقها مآثمها، فيكون الشرير الآثم الذي تصعب عليه التوبة. ولقد قال العلماء: إن كثرة ارتكاب الصغائر تجرئ على الكبائر، والشيطان يأتي من صغائر المعاصي ليغرس في النفوس غرس الرذائل، فخطوات الشيطان مدارجه يغري بالواحدة بعد الأخرى حتى يصل بالمرء إلى أقصى درجات الرذيلة.

و لقد ذيل الله سبحانه الآية بقوله: {إنه لكم عدو مبين} أي أن الشيطان الذي يتحكم في النفس الأمارة عدو مبين، أي ظاهر العداوة، بظهور آثار المآثم التي يحرض عليها، في تفريق الجماعة، وضياع الكلمة، وإصابة أهل الإسلام بالذلة، وجعلهم طعاما سائغا، فظهور العداوة بظهور آثار الأعمال الوخيمة، إذ إنه يغري باتباع الشهوات وهي حلوة المذاق، فإذا ذاقها من أغواه اندفع فيها، وهي مردية في نتائجها، وبيئة في نهايتها، فيكون الضرر المحقق بالآحاد والجماعات.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافة}، وكلمة {في} تفيد الظرفية، ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الناس. وفي سلام مع نفسك.

[ف] قوله: {ادخلوا في السّلم} معناه حتى يكتنفكم السلم. إن الله هو الإله الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه؛ لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً. فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام؛ لأن الكون الخاضع المقهور المسخّر الذي لا يملك أن يخرج عما رسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك.

[و] البشر يمكن أن يختلفوا في الأمور النابعة من أهوائهم؛ لأن لكل واحد هوى، وكل واحد يريد أن يتّبع هواه ولا يتّبع هوى الآخرين، والحق سبحانه يريد أن يعصمنا من الأهواء لذلك قال لنا: {ادخلوا في السّلم كافة} أي ادخلوا في كل صور الإسلام، حتى لا يأتي تناقض الأهواء في المجتمع. وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فلا يتناقض لسانك مع ما في قلبك، فلا تكن مؤمن اللسان كافر القلب. كن منسجما مع نفسك حتى لا تعاني من صراع الملكات. وأيضا كن داخلا في السلام مع الكون الذي تعيش فيه، مع السماء، مع الأرض، مع الحيوان، مع النبات. كن في سلم مع كل تلك المخلوقات لأنها مخلوقة مسخّرة طائعة لله، فلا تشذ أنت لتغضبها وتُحفظها عليك. كن منسجما مع الزمن أيضا، لأن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج الله سيلعنك هو والمكان، وإذا أردت أن تشيع سلامك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسالم كل الكون، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشيع السلام في الزمان والمكان.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

في هذه الآيات دعوة للمؤمنين بأن يدخلوا في الجو الإيماني الذي يحفظ لهم في الحياة الوحدة التي لا خلاف فيها، فلا نزاع ولا خصام على أساس من تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومفاهيمه وأحكامه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّم كافّة} فإنَّ الإيمان يفرض على صاحبه الالتزام بالخطّ الإلهي الذي رسمه اللّه في دينه، في مناهجه وشرائعه. ذلك ما نفهمه من كلمة "السِّلْمِ "التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جوّ الصراع والخلاف والقتال، فكأنَّ الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخطّ الواحد الذي تجتمع عليه الأمّة بعيداً عمّا يفرّقها ويوزّعها أشتاتاً متنازعة مختلفة، تماماً كما هو جوّ الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103].

ثُمَّ نلاحظ التركيز في أكثر من آية من آيات القرآن على التحدّث عن الأمم السابقة التي جاءها العلم، ولكنَّها اختلفت فيما بينها فضلّت وأضلّت، كما في قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شيء} [الأنعام: 159] وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] وغيرهما من الآيات التي توحي بالخطّ القرآني الذي يؤكد على عدم الخلاف بين أبناء الأمّة الواحدة في قضايا دينها وحياتها، ويعمل على أن يجعل من بني إسرائيل النموذج الحي الذي دمّرته الفرقة الخاضعة لأهواء التيارات الذاتية والفئوية المدمّرة؛ وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع الذي يبني له السلم حياته في سائر جوانبها العامة والخاصة، وهذا ما يدفعنا إلى استيحاء هذا المعنى من الكلمة في نطاق الجوّ القرآني العام. فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى، أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة، وذلك كما في قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه} [الأنفال: 61] وقوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمَّد: 35]. ومن خلال ذلك نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخطّ الإسلامي في الحياة. فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض، في المجالات الفكرية والاجتماعية و الاقتصادية، فلا يفسحوا المجال للخصومة والنزاع أن يحكما حياتهم، لا سيما الخلافات المذهبية في داخل الدِّين الواحد، فإنها تفرّق النّاس، وتجعل من كلّ فئة من الفئات قوّةً تخاصم الفئة الأخرى؛ فيؤدي ذلك إلى ضعف الدِّين، لأنَّ كلّ طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى، تسهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية.

ولعلّ من الطبيعي أن يكون الاتجاه إلى السلم مرتبطاً بالانسجام مع المفاهيم الإسلامية التي تحكم حياة النّاس، وذلك من خلال الأساس الفكري الذي يجمعها ويوحّد خطاها ويشعرها بأنها تلتقي عنده. وفي هذا النطاق، يمكننا أن نستوحي من الدخول في السلم الالتقاء على خطّ الإسلام الواحد، لا كمفهوم من الكلمة، بل كنتيجة للمفهوم المرتكز على الوفاق؛ فإنَّ السلم الذي يقوم على المجاملة والعاطفة، وينطلق من إخفاء العقد الذاتية، ومن الهروب بعيداً عن المشكلة، لا يمكن أن يثبت أمام التجربة، ويصمد أمام الرياح والعواصف. وهكذا يفهم الإسلام قصة السلم في الواقع، وذلك في نطاق الوحدة الفكرية والشعورية التي تتحرّك نحو الوحدة العملية الواقعية.

وربما كان ابتداء الآية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}، إيحاءً بذلك، لأنَّ الإيمان يوحي للمؤمنين بوحدة المنطلق والطريق والهدف؛ الأمر الذي يربط الوحدة بالجذور العميقة للانتماء، ويبعدها عن الارتماء في أحضان الكلمات السطحية الغارقة بالضباب، فيفجر كلّ الأشياء في الداخل، لتتحوّل إلى الهواء الطلق والنور الباهر.

[و] خطوات الشيطان تصادر خطوات السَّلام:] {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فإنه يبعد المؤمن عن خطّ إيمانه بالاستغراق في أجواء اللهو والغفلة، فيتجمد إيمانه في داخل ذاته بعيداً عن حركة الحياة من حوله، ليجعل كلّ الخطوات متحرّكة في طريقه السائر نحو الضلال والكفر والانحراف... وذلك بما يثيره في النفس من وساوس الشر، ونوازع الشك، وعوامل الانحراف؛ فيفقده وعي الإيمان، فيرى الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، وتضطرب مقاييسه عندما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء. ولعلّ من بين هذه النتائج السلبية لذلك، هو ما نواجهه من حرب المؤمن للمؤمن باسم الإيمان، بتسويل الشيطان له بأنه يحارب الانحراف لدى المؤمن، ولكنَّه لو دقّق النظر، لاكتشف أنه يعاديه على أساس مزاجه الشخصي وهواه الذاتي.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فهو لا يريد لكم الخير في وساوسه وتسويلاته وتزيينه، بل يريد لكم الشر من خلال استغلال نقاط الضعف الكامنة في شخصياتكم، ليستثير غرائزها في اتجاه الانحراف، وأحلامها في الخطوط البعيدة عن الواقع، سواء أكان ذلك من الناحية الفكرية، [أم] من الناحية العملية، فيصوّر لكم الباطل بصورة الحقّ لتتبعوه، ويصوّر الحقّ بصورة الباطل لتتركوه، لأنه يحسن تجميل الصورة القبيحة ببعض وسائله، كما يتقن تقبيح الصورة الجميلة ببعض ألاعيبه. وهذا هو العنوان القرآني العام في كلّ حديث له عن الشيطان، كما في هذه الآية. وربما كان التعبير ب {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يختزن في مضمونه الإيحاء ولو من بعيد بالتدريجية في طريقة الشيطان في أساليبه الخداعة المغرية، بحيث يتحرّك مع الإنسان خطوة خطوة، ليؤدي به إلى الهلاك في نهاية المطاف، إذ إنَّ الإنسان إذا استغرق في الاندفاع في الطريق بالخطوة الأولى، فإنها تجتذب الخطوة الثانية والثالثة إلى نهاية الطريق، ما يفرض على الإنسان أن يعي الخطّة الشيطانية منذ البداية عندما يبدأ حركته في الطريق، فإنَّ الوعي في نقطة الانطلاق هو الذي يحمي الإنسان من نقطة النهاية، لأنَّ الوعي في الحركة الأولى يجتذب وعي الحركة في آخر الطريق. وجاءت هذه الفقرة في هذه الآية {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لتوجه الإنسان إلى دراسة الطريق جيداً في كلّ خطواته، لا سيما إذا كان الجوّ جوّ الدعوة إلى السَّلام؛ فإنَّ الشّيطان يعرف كيف يسخّر الخطوات الساذجة لتسير في الاتجاه الذي يريده، من أجل تخريب خطوات السَّلام وإضاعتها في مهب الرياح الذاتية والحزبية والعصبية، وغير ذلك من الأمور التي تفرّق النّاس وتشتتهم شيعاً وأحزاباً بمختلف الأسماء والألوان والأشكال...الأمر الذي يدفعنا إلى أن نحدّد الخطّ الفاصل بين أهداف الشيطان وأهداف الرحمن، لنكتشف طبيعة الخطوات من خلال اكتشاف طبيعة الأهداف.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تدعو هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى، ويُستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الإيمان، وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا، لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الاضطرابات والنّزاعات دائماً، فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح مستحيلاً، بل يُمكن القول إنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعية إلى الصّلح والسّلام يُستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.

[و] واضحٌ أنّ الأطر الماديّة الأرضيّة (من اللّغة والعنصر و...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتصال محكمة تربط بين قلوب النّاس، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب.