قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } . الذين عبدوا العجل .
قوله تعالى : { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } . ضررتم بأنفسكم .
قوله تعالى : { باتخاذكم العجل } . إلهاً قالوا : فأي شيء نصنع ؟
قوله تعالى : { فتوبوا } . فارجعوا .
قوله تعالى : { إلى بارئكم } . خالقكم قالوا : كيف نتوب ؟ قال :
قوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } . يعني ليقتل البريء منكم المجرم .
قوله تعالى : { ذلكم } . أي القتل .
قوله تعالى : { خير لكم عند بارئكم } . فلما أمرهم موسى بالقتل . قالوا : نصبر لأمر الله ، فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم : من حل حبوته ، أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون ، مردودة توبته ، وأصلت القوم عليهم الخناجر ، وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى ، قالوا : يا موسى كيف نفعل ؟ فأرسل الله تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء ، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية ، فكشف الله تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل ، فتكشفت عن ألوف من القتلى .
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : كان عدد القتلى سبعين ألفاً ، فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه : أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول في الجنة ؟ فكان من قتل شهيداً ، ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه ، فذلك قوله تعالى : { فتاب عليكم } . أي ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم ، فتجاوز عنكم .
هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ، قال الحسن البصري ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } فقال : ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } الآية [ الأعراف : 149 ] .
قال : فذلك حين يقول موسى : { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }
وقال أبو العالية ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } أي إلى خالقكم .
قلت : وفي قوله هاهنا : { إِلَى بَارِئِكُمْ } تنبيه على عظم جرمهم ، أي : فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره .
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن هارون ، عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد{[1741]} فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول . وهذا{[1742]} قطعة من حديث الفُتُون ، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ، إن شاء الله{[1743]} .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : قال أبو سعيد : عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى لقومه : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } قال : أمر موسى قومه - من أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم قال : واحتبى الذين عبدوا{[1744]} العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل ، فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظُلَّة{[1745]} شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلَّة{[1746]} عنهم ، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا ، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد ، حتى ألوى موسى بثوبه ، فطرحوا ما بأيديهم ، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل . وإن الله أوحى إلى موسى : أن حَسْبي ، فقد اكتفيت ، فذلك حين ألوى موسى بثوبه ، [ وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك ]{[1747]} .
وقال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة .
وقال الحسن البصري : أصابتهم ظلمة حنْدس ، فقتل بعضهم بعضا [ نقمة ]{[1748]} ثم انكشف عنهم ، فجعل توبتهم في ذلك .
وقال السدي في قوله : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال : فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا ، حتى كثر القتل ، حتى كادوا أن يهلكوا ، حتى قتل بينهم{[1749]} سبعون ألفًا ، وحتى دعا موسى وهارون : ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقيةَ البقيةَ ،
فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا ، ومن بقي مُكَفّرا عنه ؛ فذلك قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
وقال الزهري : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ، برزوا ومعهم موسى ، فاضطربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر ، وموسى رافع يديه ، حتى إذا أفنوا بعضهم{[1750]} ، قالوا : يا نبي الله ، ادع الله لنا . وأخذوا بعضُديه يسندون يديه ، فلم يزل أمرهم على ذلك ، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم ، بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله ، جل ثناؤه ، إلى موسى : ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ، وأما من بقي فقد قبلت توبته . فسُرّ بذلك موسى ، وبنو إسرائيل .
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه .
وقال ابن إسحاق : لما رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم ، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم بُعثوا ، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل . فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى : نَصبر لأمر الله . فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يَقْتُل من عبده . فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى ، وَبَهَش إليه النساء والصبيان ، يطلبون العفو عنهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان{[1751]} سبعون{[1752]} رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه . فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا : يا موسى ، ما من{[1753]} توبة ؟ قال : بلى ، { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } الآية ، فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين . قال : وبعث عليهم ضبابة . قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضًا . قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري . قال : ويتنادون [ فيها ]{[1754]} : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه ، قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم ، ثم قرأ : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا . { فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .
{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .
{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .
{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .
وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .
واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .
و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .
وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .
وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .
وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]
إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )
قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )
وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]
إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان
ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .
قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .
وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .
وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .
قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .
وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .
وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .
قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :
. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )