اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

يا قوم " اعْلَمْ أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستَّ لُغَات .

أفصحها : حذفها مجتزئاً عنها بالكَسْرَةِ ، وهي لغة القرآن .

والثانية : ثبوت الياء ساكنة .

الثالثة : ثبوتها مفتوحة .

الرابعة : قلبها ألفاً .

الخامسة : حذف هذه الألف ، والاجتزاء عنها بالفتحة ؛ كقوله : [ الوافر ]

495- وَلَسْتُ بِرَاجِعِ مَا فَاتَ مَنِّي *** بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ أنِّي

أي يقول : يا لَهْفَا .

السَّادِسَةُ : بناء المضاف إليها على الضَّمّ تشبيهاً بالمفرد ، نحو قراءة من قرأ : { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] .

قال بعضهم : لأن " يا قوم " في تقدير : يا أيها القوم والقوم : اسم جمع ؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين ، وليس له واحد من لفظه ، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير ، ومُفْرَدُهُ " رَجُل " ، واشتقاقه من " قَامَ بالأَمْرِ يقومُ به " ، قال تعالى { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } [ النساء : 34 ] والأصل في إطلاقه على الرجال ؛ ولذلك قوبل بالنِّسَاء في قوله تعالى : " لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ " .

وقول زهير : [ الوافر ]

496- وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي *** أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءَ

وأما قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] و { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ }

[ الشعراء : 160 ] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التَّغْلِيب ، ولا يجوز أن يطلق على النِّساء وحدهن ألبتة ، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك .

فصل في نظم الآية

في قوله : " يا قوم " لطيفة ، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه ، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط ، وامتزاج ، فكأنه منهم [ وهم ] منه فَصَارَا كالجَسَدِ الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه ، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه : ما أُحِبُّ لك إلا ما أُحِبُّ لنفسي وذلك إشارة إلى اسْتِمَالَةِ قلوبهم إلى قَبُولِ دعواه ، وطاعتهم له فيما أمرهم به ، ونَهَاهُمْ عنه .

قوله تعالى : { بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } الباء للسببية ، متعلّقة ب " ظلمتم " ، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه لمادة .

و " العِجْل " مفعول أوّل ، والثَّاني محذوف أي : إلهاً كما تقدم ، والمصدر هُنَا مضاف للفاعل ، وهو أحسن الوجهين ، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل ؛ لأنه رتبته التقديم ، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل .

وأما { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] فسيأتي إن شاء الله تعالى . وتقدّم الكلام في " العِجْل " .

قوله : { إِلَى بَارِئِكُمْ } متعلّق ب " توبوا " ، والمشهور كسر الهمزة ؛ لأنها حركة إعراب . وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر :

الاخْتِلاَس : وهو الإتيان بحركة خفية ، والسكون المحض ، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة ، ونسبوا راويها إلى الغَلَطِ على أبي عَمْرو .

وقال سيبويه : " إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سَكَّن ولم يضبط " .

وقال المبرِّد : " لا يجوز التسكين مع تَوَالِي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعْرِ ، وقراءة أبي عمرو{[1331]} لحن " .

وهذه جرأة من المبرد ، وجهل بأشعار العرب ، فإن السُّكونَ في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً ؛ منه قول امرئ القيس : [ السريع ]

497- فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحقِبٍ *** إثْماً مِنَ اللَّهَ وَلاَ وَاغِلِ

فَسكَّن " أَشْرَبْ " ، وقال جَرِير : [ البسيط ]

498- . . . *** وَنَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ

وقال آخر : [ السريع ]

499- رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا *** وَقَدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ

يريد : " هَنُك وتَعْرِفُكُم " فهذه حركات إعراب ، وقد سُكّنت ، وقد أنشد ابن عطية وغيره رَدّاً عليه قوله : [ الرجز ]

500- قَالَتْ سُلَيْمَى : اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا *** . . .

وقول آخر : [ الرجز ]

501- إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ : صَاحِبْ قَوِّمِ *** . . .

وقول الآخر : [ الرمل ]

502- إِنَّمَا شِعْرِيَ شَهْدٌ *** قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ

ولا يحسن ذلك ؛ لأنها حركات بناء ، وإنما منع هو ذلك من حركات الإعراب ، وقراءة أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيلٌ ، ولذلك اجتزئ عليها بجميع أنواع التخفيف ، فاستثقلت عليها الحركة فقدِّرت ، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رحمه الله في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السَّيِّئ وَلاَ } فإنه سكن همزة " السّيِّئ " وصلاً ، والكلام عليهما واحد ، والذي حسنه هنا أنّ قبل كسرةِ الهمزةِ راءٌ مكسورةً ، والراء حرف تكرير ، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التَّسْكين ، وليت المبرِّد اقتدى بسيبويه في الاعْتِذَار عن أبي عمرو . وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التَّخْفيف ، ولذلك يدغم المثلين ، والمتقاربين ، ويُسَهِّل الهمزة ، ويسكن نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] و { بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] على تفصيل معروف عند القُرَّاء ، وروي عنه إبدالُ هذه الهمزة السَّاكنة ياءً ، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة ، وبعضهم ينكر ذلك عنه ، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو .

وروى ابن عطية عن الزهري : " بَارِيكُمْ " بكسر الياء من غير همزة قال : " ورويت عن نافع " .

قلت : من حق هذا القارئ أن يسكن الياء ؛ لأن الكسرة ثقيلةٌ عليها ، ولا يجوز ظهورها إلاّ في ضرورة شعر ؛ كقول أبي طالب : [ الطويل ]

503- كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزِي مُحَمَّداً *** وَلَمْ تَخْتَضِبْ سُمْرُ العَوَالِي بالدَّمِ

وقرأ قتادة : " فَاقْتَالُوا " وقال : هي من الاستِقَالة .

قال ابن جنِّي : اقْتَالَ : افتعل ، ويحتمل أن تكون عينها واواً ك " اقْتَادُوا " أو ياء ك " اقْتَاسَ " ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة .

ولكن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظنُّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده .

وقرئ أيضاً : " فَأَقِيلُوا أنفسكم " بالياء المُثَنَّاة التحتية ، وهي موافقة للرسم أيضاً .

" والبارئ " : الخالق ، برأ الله الخلق أي : خلقهم ، وقد فرق بعضهم بين الخَالِقِ والبارئ ، بأن البَارِئ هو المبدع المُحْدِث ، والخالق هو المقدر النَّاقل من حال إلى حال ، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز ، ومنه : برأ المريض بُرْءاً وبَرْءاً وبَرَاءَةً ، وبرئت أيضاً من الدَّيْن براءةً ، والبَرِيّة : الخلق ؛ لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجود ، إلاّ أنه لا يهمز .

وقيل : أصله من البَرَى وهو التراب . وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى .

قوله : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } .

قال بعض المفسرين : هذه الآية وما بعدها منقطعةٌ عما تقدم من التذكير بالنعم ؛ لأنها أمر بالقَتْلِ ، والقتل لا يكون نعمة ، وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أن الله تعالى نبَّههم على عظم ذنبهم ، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم ، وذلك من أعظم النعم في الدين ، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية ، فتعديد النعم الدينية أولى ، ثم إنّ هذه النعمة ، وهي كيفية التَّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً مع تمام النّعمة ، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدوداً في نعم الله تعالى ، فجاز التذكير بها .

وثانيها : أنه تعالى لما أمرهم بالقَتْلِ رفع ذلك الأمر عنهم قبل فَنَائِهِمْ بالكلية ، فكان ذلك نعمة في حَقِّ الباقين والموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنه رفع القَتْلَ عن آبائهم ، فكان نعمة في حقهم .

وثالثها : أنه تعالى لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقَتْلِ مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم : لا حَاجَةَ بكم الآن في التوبة إلى القَتْلِ ، بل إن رجعتم عن كفركم ، وآمنتم قَبِلَ الله إيمانكم فكان بيان التَّشْديد في تلك التوبة تنبيهاً على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلةٌ هيّنةً .

ورابعها : أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رغبوا في تلك التَّوْبة مع [ غاية ] مشقّتها على النفس ، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مُجَرّد الندم أولى .

فصل في كيفية قتل أنفسهم

أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العِجْلِ بأن يقتل نفسه بِيَدِهِ ، قال الزُّهرِي : لما قيل لهم : " فَتُوبُوا إلى بَارِئَكُمْ " قاموا صَفّين ، وقتل بعضهم بعضاً ، حتى قيل لهم : كفُّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحَيّ .

وقيل : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك .

وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ، إذ لم يعبدوا العِجْل . وقيل : إن يُوشَعَ بن نُون خرج عليهم وهم مُحْتَبُونَ فقال : ملعون من حلّ حَبْوَتَهُ أم مَدّ طرفه إلى قاتله ، أو اتَّقَاهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ . فلم يَحلّ أحد منهم حبْوَتَه حتى قتل منهم من قتل . ذكره النحاس وغيره . وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العِجْلَ بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يُقَاتلوا من عبده .

وهذه سُنّة الله في عباده ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : " ما من قَوْمٍ يُعمل فيهم بالمَعَاصِي هم أعزُّ منهم وأمنع لا يُغَيِّرُون إلا عَمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ {[1332]} " .

فإن قيل : التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره ؟

والجواب : كأنه قال : لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله .

فإن قيل : كيف استحقُّوا القتل ، وهم تابوا من الردَّة ، والتائب من الردة لا يقتل ؟

والجواب : أن ذلك مما يختلف [ بالشرائع ] .

قوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } .

قال بعضهم : " ذلكم " مفرد واقع موقع " ذانكم " المُثَنَّى ؛ لأنه قد تقدّم اثنان : التوبة ، والقَتْل .

قال أبو البقاء : " وهذا ليس بشيء ؛ لأن قوله : " فاقتلوا " تفسير للتوبة فهو واحد " .

و " خير " " أفعل " تفضيل ، وأصله : أَخْيَر ، وإنما حذفت همزته تخفيفاً ، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة ؛ قال : [ الرجز ]

504- بِلاَلٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ *** . . .

ومثله : " شَرّ " لا يجوز " أَشَرّ " إلا في ندور ، وقد قرئ : { مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ } [ القمر : 26 ] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على " أَفْعَل " ، فلا تحذف همزته إلا في ندور ، كقولهم : " ما خَيْر اللبن للصحيح ، وما شَرّه للمبطون " ف " خَيْر وشَرّ " قد خرجا عن نظائرهما في باب التَّفضيل والتعجُّب .

و " خَيْر " أيضاً مخفف من " خَيْر " على " فَيْعل " ولا يكون من هذا الباب ، ومنه : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] .

قال بعضهم : مخفف من " خَيِّرات " . والمفضّل عليه محذوف للعلم به ، أي : خير لكم من عدم التوبة . ول " أفعل " التفضيل أحكام كثيرة ، وباقي منها ما يضطر إليه .

قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } في الكلام حَذْفٌ ، وهو : ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم ، والفاء الأولى في قوله : " فَتُوبُوا " للسببية ؛ لأن الظلم سَبَبُ التوبة .

والثانية للتعقيب ؛ لأن المعنى : فاعزموا على التَّوْبة ، فاقتلوا أنفسكم .

والثَّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو : إما أن ينتظم في قول مُوسَى لهم فيتعلّق بشرط محذوف ، كأنه قال : وإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإما أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالْتِفَاتِ ، فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى ، فتاب عليكم بارئكم . قاله الزمخشري .

وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي : فتجاوز عن الباقين منكم . إنه هو التواب الرحيم .


[1331]:- يعني قراءة الاختلاس، ووافقه فيها ابن محيصن. وانظر فيها العنوان في القراءات السبع: 69، وشرح الطيبة: 4/ 25، وحجة القراءات: 97، والحجة للقراء السبعة: 2/77، وإتحاف فضلاء البشر: 1/391، 392، 393، وشرح شعلة: 262.
[1332]:- أخرجه ابن ماجه في السنن (2/1329) كتاب الفتن (36) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (20) حديث رقم (4009) وأبو داود كتاب الملاحم بـ17 وأحمد (4/264) والبيهقي: 10/91.