الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل:"يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم": وظلمهم إياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى، وكذلك كل فاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم. ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم والإنابة إلى الله من ردّتهم بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به، وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه، قتلهم أنفسهم. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى التوبة: الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته. فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم على ما أمرهم به.

"فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ": عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا... لا يحنّ رجل على رجل قريب ولا بعيد... [حتى] دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: "فتَاب عَلَيْكُمْ إنّهُ هُو التّوّابُ الرحِيمُ"...

"فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ": ارجعوا إلى طاعة خالقكم وإلى ما يرضيه عنكم... وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ. والبريّة: الخلق... والبَرَى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.

وقال بعضهم: إنما أخذت البرية من قولك بريت العود، فلذلك لم يهمز.

"ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ": فإنه يعني بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بارئكم لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الاَخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه.

"فتَاب عَلَيْكُمْ": أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك، لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم فتاب عليكم. فترك ذكر قوله «فتبتم» إذْ كان في قوله: فتَابَ عَلَيْكُمْ دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم.

ويعني بقوله: "فَتابَ عَلَيْكُمْ "رجع لكم ربكم إلى ما أحببتم من العفو عن ذنوبكم، وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم.

"إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ": يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحبّ من العفو عنه. ويعني بالرحيم: العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

حمل قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} على الظاهر وهو البخع وقيل: معناه قتل بعضهم بعضاً...

فإن قلت: ما الفرق بين الفاآت؟ قلت:

الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة.

والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قِبَلِ أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم. فيكون المعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم.

والثالثة متعلقة بمحذوف، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم، فتتعلق بشرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإمّا أن يكون خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.

فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت {مَا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3] ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عبادة البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا الإنعام الخامس. قال بعض المفسرين: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم، وذلك لأنها أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وهذا ضعيف من وجوه؛

أحدها: أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم، ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى، ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضا في تمام النعمة. فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدودا في نعم الله فجاز التذكير بها.

وثانيها: أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين، وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام،

وثالثها: أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم: لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل، بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم، قبِل الله إيمانكم منكم، فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيها على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة.

ورابعها: أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة، فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس، فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى. ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه:

مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم

– ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء-: يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها.

ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم. لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها،

وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان

وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف. بعد هذا كله استعدت تلك النفوس لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة،

فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوء بقوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه} أي واذكر أيها الرسول فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم إذ قال موسى لقومه الذين اتخذوا من حليهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربه في الميقاتين الزماني والمكاني {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} إلها عبدتموه...

{فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلها آخر بعضكم بعضا، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه ليبخع كل من عبد العجل نفسه انتحارا...

[و] التوبة... محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب، والباعث عليها هو شعور التائب بعظمه من عصاه وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد [مقارفة] الذنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية ويحدث في روحه انفعالا مما فعل وندما على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب، وما رتبه الله عليها من العقوبة في الدنيا والآخرة. هذا أثر التوبة في النفس، وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه وتمحو أثره السيء {11: 114 إن الحسنات يذهبن السيئات}.

فمن علامة التوبة النصوح: الإتيان بأعمال تشق على النفس وما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي يحدثه الذنب. وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة سواء [أكان] الذنب مع الله تعالى [أم] مع الناس. ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهى به أن يجيء معترفا بالذنب معتذرا عنه؟ وهذا ذل يشق على النفس لا محالة،

وقد أمر بنو إسرائيل بأشق الأعمال في تحقيق التوبة من أكبر الذنوب، وهو الرغبة عن عبادة من خلقهم وبرأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم وقد قال {فتوبوا إلى بارئكم} لينبههم إلى أن الإله الحقيقي هو الخالق البارئ ليتضمن الأمر الاحتجاج عليهم والبرهان على جهلهم. ذلك العمل الذي أمرهم به موسى هو قتل أنفسهم. والقصة في التوراة التي بين أيديهم إلى اليوم: دعا موسى إليه من يرجع إلى الرب، فأجابه بنو لاوي فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، وقتل في ذلك اليوم "نحو ثلاثة آلاف"... والقرآن لم يعين العدد، والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه. كذا قال الأستاذ الإمام، وهذا مذهبه في جميع مبهمات القرآن عند النص القطعي لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه.

{ذلكم خير لكم عند بارئكم} لأنه يطهركم من رجس الشرك الذي دنستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا لما وعدكم به في الدنيا ولمثوبته في الآخرة

{فتاب عليكم} من كلام الله تعالى لا تتمة لكلام موسى عليه السلام في الظاهر وهو معطوف على محذوف تقديره ففعلتم ما أمركم موسى به فتاب عليكم

{إنه هو التواب الرحيم} أي إنه هو وحده الكثير التوبة على عباده بتوفيقهم لها وقبولها منهم، وإن تعددت قبلها جرائمها، الرحيم بهم، ولولا رحمته لعجل بإهلاكهم ببعض ذنوبهم الكبرى ولا سيما الشرك به...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولم يكن بد من التطهير القاسي؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة، وتأديب عنيف. عنيف في طريقته وفي حقيقته:

(وإذ قال موسى لقومه: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم. ذلكم خير لكم عند بارئكم)..

أقتلوا أنفسكم. ليقتل الطائع منكم العاصي. ليطهره ويطهر نفسه.. هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة.. وإنه لتكليف مرهق شاق، أن يقتل الأخ أخاه، فكأنما يقتل نفسه برضاه. ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة، التي لا تتماسك عن شر، ولا تتناهى عن نكر. ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل. وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم!

وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير:

(فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابراً لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} [البقرة: 51] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه، وهو حينئذ منة، إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن، ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.

فقول موسى لقومه: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلاً حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله {ظلمتم أنفسكم}...وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وإذ هنا دالة على الوقت الماضي، والمعنى واذكروا ذلك الوقت، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر، والكفر بالنعمة، اذكروا ذلك العمل الفاجر، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه، وأنكم نبذتم الحق، واتبعتم الباطل، واذكروا وقت أن قال موسى لكم {يا قوم} لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين، فالنداء بقوله {يا قوم} إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة وتأييد، وإعزاز، وتنزيه لهم عن الباطل، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب، ولقد من الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)} [التوبة] ناداهم موسى: {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بأنهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهم باطل لا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.

ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك ب"إن" الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم بأن أضلوها عن الحق، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصى موسى، وانشقاقه، وفي نجاتهم من الذل، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل، كما كان يفعل الذين أذلوها، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى، وضلوا ضلالا بعيدا.

هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} الفاء في قوله تعالى: {فتوبوا} هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى "برأ" أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير ببارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.

والطريق الذي بينه موسى هو قوله: {فاقتلوا أنفسكم} أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة: "من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها" وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.

وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح الكلام في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، في القرآن كقوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)} [الشعراء].

وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس.

وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال: {ذلكم خير لكم} الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منه.

وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال: {فتاب عليكم}. أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى ب "على" للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم لا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله: {إنه هو التواب الرحيم}. والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، والتواب صيغة مبالغة من التائب، والتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.

وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم؛ لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82)} [طه].

وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد ب"إن".