الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

قوله تعالى : { يَا قَوْمِ } . . اعلم أنَّ في المنادى المضافِ إلى ياء المتكلم ستَّ لغاتٍ أفصحُها : حَذْفُها مُجْتَزَأً منها بالكسرةِ وهي لغةُ القرآن ، الثانية : ثبوتُ الياءِ ساكنةً ، الثالثة : ثبوتُها مفتوحةً ، الرابعةُ : قَلْبُهَا ألفاً ، الخامسةُ : حَذْفُ هذهِ الألفِ والاجتزاءُ عنها بالفتحةِ كقولِه :

ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي *** بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي

أي : بقولي يا لَهْفا ، السادسة : بناءُ المضاف إليها على الضمِّ تشبيهاً بالمفرد ، نحو قراءةِ مَنْ قَرَأ : { قَالَ رَبُّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] . قال بعضُهم : " لأنَّ " يا قوم " في تقدير : يا أيُّهَا القومُ " وهذا ليس بشيءٍ .

والقومُ : اسمُ جمعٍ ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين ، وليس له واحدٌ من لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ ، ومفردُه رَجُل ، واشتقاقُه من قام بالأمرِ يَقُوم به ، قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } [ النساء : 34 ] ، والأصلُ في إطلاقِه على الرجال ، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ :

{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ . . . وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ } [ الحجرات : 11 ] وفي قولِ زهير :

وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي *** أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ

وأما قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] و { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] ، والمكذِّبون رجالٌ ونساء فإنما ذلك من باب التغليب ، ولا يجوزُ أن يُطْلَقَ على النساءِ وَحْدَهُنَّ البتةَ ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهِمُ [ ذلك ] .

قوله : { بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } الباءُ للسببيةِ ، متعلِّقَةٌ ب " ظَلَلْتُم " وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ : هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ . و " العجل " مفعولٌ أولُ والثاني محذوفٌ أي : إلهاً كما تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو أحسنُ الوجهينِ ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه إلى الفاعل لأنَّ رُتْبَته التقديمُ ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ الفاعل . فأمَّا : { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] فسيأتي [ القول فيها مُشْبعاً ] إن شاء الله تعالى .

والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة . قال الراغب : " العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ لِتَصوُّرِ عَجَلَتِها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً " . وقيل : إنما سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه قبل مجيء موسى ، ويُرْوى عن عليّ ، وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك ، والجمع عَجاجِيل وعُجُول .

قوله : " إلى بارِئِكم " متعلِّقٌ ب " تُوبوا " والمشهورُ كَسْرُ الهمزة ، لأنها حركةُ إعرابٍ ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ : الاختلاسُ ، وهو الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة ، والسكونُ المَحْضُ ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين ، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو ، قال سيبويه : " إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط " ، وقال المبردُ : " لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر ، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ " وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب ، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً ، ومنه قولُ امرئِ القيس :

فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ *** إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ

فسكَّن " أَشْرَبْ " ، وقال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهرُ تِيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ

وقال أخر :

رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما *** وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ

يريد : هَنُك ، وتَعْرِفُكم ، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه :

قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا

وقول الآخر :

إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ

وقول الآخر :

إنما شِعْريَ شَهْدٌ *** قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ

ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء ، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب ، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل ، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت ، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السَّيىءِ وَلاَ } فإنه سَكَّن هَمزة " السيء " وَصْلاً ، والكلامُ عليهما واحد ، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً ، والراءُ حرفُ تكريرٍ ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه :

وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ *** لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ

وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، و { بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء . ورُوِيَ [ عنه ] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [ عنه ] ، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ . وروى ابنُ عطية عن الزهري " بارِيِِكم " بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ ، قال : " ورُوِيَتْ عن نافع " ، قلت : من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا ، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب :

كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً *** ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ

وقرأ قتادة : " فاقْتالوا " وقال : هي من الاستقالةِ ، قال ابن جني : " اقتال : افْتَعَل ، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [ كاقتادوا ] أو ياءً كاقتاس ، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة " ، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده .

والبارئ هو الخالقُ ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم ، وقد فَرَّق بعضُهم بين الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدِعُ المُحْدِثُ ، والخالِقُ هو المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال . وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ والتميُّزِ ، ومنه : بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأْتُ أيضاً من الدَّيْن بَراءةً ، والبَرِيَّةُ الخَلْق ، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجودِ ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ ، وقيل : أصلُه من البَرَى وهو التراب ، وسيأتي تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى .

قوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال بعضُهم : " ذلكم " مفردٌ واقعٌ موقعَ " ذانكم " المثنَّى ، لأنه قد تقدَّم اثنان : التوبة والقتلُ . قال أبو البقاء : " وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ قولَه : { فَاقْتُلُواْ } تفسيرُ التوبةِ فهو واحدٌ " و " خَيْر " أفعلُ تفضيلٍ وأصلُه : أًَخْيَرُ ، وإنما حُذِفَتْ همزتُه تخفيفاً ولا تَرْجِعُ هذه الهمزةُ إلا في ضرورةٍ ، قال :

بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ

ومثلُه شَرّ ، لا يجوز أَشَرّ ، إلا في ندور ، وقد قُرىء : { مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ } [ القمر : 26 ] وإذا بُني من هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم : " ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ ، وما شَرَّه للمبطونِ " فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب ، و " خَيْر " أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على فَيْعِل ولا يكونُ من هذا البابِ ، ومنه : " فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ " قال بعضهم : " مُخَفَّف من خَيِّرات " . والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به ، أي : خيرٌ لكم من عدم التوبة . ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتملها [ هذا ] الكتابُ ، وإنما نأتي منها بما نضطرُّ إليه .

قولُه تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } في الكلامِ حَذْفٌ ، وهو " فَفَعَلْتُم ما أُمِرْتُمْ به من القتلِ فتابَ عليكم . والفاءُ الأولى في قوله : " فتوبوا " للسببية ، لأن الظلمَ سَببُ التوبةِ ، والثانيةُ للتعقيبِ ، لأنَّ المعنى : فاعْزِموا على التوبة ، فاقتلوا أنفسَكم ، والثالثةُ متعلقةٌ بمحذوفٍِ ، ولا يخلو : إمَّا أن ينتظمَ في قول موسى لهم فيتعلَّقَ بشرطٍ محذوفٍ كأنه : وإنْ فَعَلْتُم فقد تابَ عليكم ، وإمَّا أَنْ يكونَ خطاباً من الله لهم على طريقةِ الالتفاتِ ، فيكونُ التقديرُ : فَفَعَلْتُم ما أَمركم به موسى فتابَ عليكُم ، قاله الزمخشري .