غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

54

التفسير : إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه ، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضاً لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل ، ظهر أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم . وفيه ترغيب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى .

هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لابد فيه من تعدي ضرر ، فبين ههنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي .

والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية ، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة . والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم ، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم ، والمعنى فتوبوا فاتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه .

ومعنى { إلى بارئكم } النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل : لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس .

وقوله { ذلكم } أي القتل { خير لكم عند بارئكم } جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . والموت لابد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير . والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره : فامتثلتم فتاب عليكم . وعلى هذا يكون الكلام خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، ويمكن أن يقال : المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض ، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة ، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل . من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها .

والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه ، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل . وإما قتل بعضهم بعضاً وعليه المفسرون لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ]{ فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة .

ثم اختلفوا فقيل : إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم . وقيل : لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة ، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفاً الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا ، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين .

روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء . وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية يا الهنا . فكشفت الضبابة والسحابة ، وأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لمن قتل ، وتبت على من لم يقتل . قالوا : وكانت القتلى سبعين ألفاً . وقيل : كانوا قسمين : منهم من عبد العجل ، ومنهم من لم يعبد . ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة . والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا : معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس .