الآية 54 وقوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ) بعبادتكم العجل ، [ وقيل : ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلها .
وقوله عز وجل : ( فتوبوا إلى بارئكم ) قيل : ارجعوا عن عبادة العجل ]{[780]} إلى عبادة ربكم . وقيل : ارجعوا عن{[781]} اتخاذ العجل إلى اتخاذ خالقكم إلها .
وقوله عز وجل : ( فاقتلوا أنفسكم ) قال الفقيه أبو منصور ، رحمه الله ، لولا اجتماع أهل التأويل والتفسير على صرف ما أمر الله تعالى{[782]} إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته{[783]} وإلا لم نكن نصرف الأمر [ بقتل أنفسهم ]{[784]} على حقيقة القتل ؛ وذلك لأن الأمر بالقتل [ كان بعد ]{[785]} التوبة ورجوعهم إلى عبادة [ الله تعالى ]{[786]} والطاعة له{[787]} والخضوع ؛ دليله قوله عز وجل ( ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 149 ] . ظهر بهذا أنهم تابوا قبل أن يؤمروا بالقتل . وقد شرع على ألسن الرسل قتال الكفرة حتى يسلموا ، فلا يجوز ذلك إن أسلموا ، فيحصل الإرسال للقتل خاصة لا للدين{[788]} ، والله أعلم .
ولأن القتل ، هو عقوبة الكفر لا عقوبة الإسلام ، وخاصة{[789]} قتل استئصال ، على ما روي في الخبر : أنه قتل سبعون ألفا في يوم واحد ؛ وذلك استئصال وإهلاك ، ولم يهلك الله قوما إلا في حال الكفر والعناد ، إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه : لأن [ من ]{[790]} يقتل لكفره ، إذا أسلم سقط القتل عنه ، وزال ، وكذلك إذا أسلم ، ومات عليه ، لم يعاقب في الآخرة لكفره في الدنيا . فعلى ذلك يجب ألا يعاقب هؤلاء في الدنيا بالقتل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله تعالى وطاعته .
ويصرف الأمر بالقتل إلى إجهاد{[791]} أنفسهم بالعبادة لله والطاعة له واحتمال الشدائد والمشقة لتفريطهم في عصيان ربهم باتخاذهم العجل إلها وبعبادتهم إياه دون الله ؛ وذلك جار في الناس ؛ يقال : فلان يقتل نفسه في كذا ، لا يعنون حقيقة [ القتل ، ولكن إجهاده ]{[792]} نفسه في ذلك وإتعابه إياها واحتمال الشدائد والمشقة فيه ، فعلى ذلك يصرف الأمر بقتل أنفسهم إلى ما ذكر بالمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم .
[ ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل ، إن احتمل ، بوجهين ]{[793]} :
أحدهما : أن يجعل ذلك ابتداء محنة من الله تعالى لهم بالقتل لا عقوبة ، لما سبق من العصيان . ولله أن يمتحنهم بقتل أنفسهم كقوله تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ) [ النساء : 66 ] الآية ، على تأويل كثير من المتأولين في ذلك ؛ إذ له أن يميتهم بجميع أنواع الإماتة ، فعلى ذلك له أن يأمر بقتل أنفسهم ؛ وفيه إماتة مع ما فيه من الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه من بذل النفس لله مما في مثله جعل وفاء إبراهيم الأمر بالذبح وبذل ولده النفس له ، فيكون في ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل ، والله أعلم .
والثاني : يجوز ذلك لأن عقوبة الدنيا [ وعقوبات الدنيا ]{[794]} وثوابها محنة ، فجاز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة الله تعالى لأنها دار محنة . وأما عقوبات الآخرة وثوابها [ فليستا بمحنة ]{[795]} لأنها ليست بدار امتحان ؛ ولذلك جاز التعذيب في الدنيا بعد التوبة ، ولم يجز في الآخرة إذا مات على التوبة . والله أعلم .
ثم قيل في قوله : ( فاقتلوا أنفسكم ) بوجوه ، قيل : أمروا ببذل الأنفس للقتل{[796]} والتسليم له فصاروا كأن قد قتلوا أنفسهم . ويجوز أن يكون الأمر بقتل أنفسهم أمرا{[797]} بمجاهدة الأعداء ، وإن كان فيها تلفهم على ما قال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) بالتوبة : 111 ] مذكور ذلك في التوراة ، وكذا قوله : ( لا تسفكون دماءكم ) [ البقرة : 84 ] نهي عن القتل الذي فيه قتل أنفسهم . وقد قيل في قوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] بمعنى أي لا تقتلوا من تقتلون ، فكأنما [ قد ]{[798]} قتلتم أنفسكم . وعلى هذا التأويل خرج أبو بكر [ الأصم ]{[799]} قوله : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 66 ] ، والله الموفق .
وقيل : أمر بعضا بقتل بعض كقوله : ( فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ) [ النور : 61 ] أي يسلم بعضهم على بعض . وقيل : أمر كل من عبد العجل بقتل [ نفسه ]{[800]} ، والله أعلم .
وقوله : ( ذلكم خير لكم عند بارئكم ) قل : إن التوبة خير لكم عند خالقكم ، وقيل : قتلكم{[801]} أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل . ويحتمل : عبادة الرب عز وجل خير لكم من عبادة العجل ، والله أعلم .
وقوله : ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) وقد ذكرنا المعنى في ما تقدم{[802]} وفي بذل أنفسهم للقتل والصبر عليه وكف أيديهم عن الدفع والممارسة فيه وجهان :
أحدهما : أنه كأنهم طبعوا{[803]} على أخلاق البهائم والدواب . وذلك أن موسى [ عليه السلام ]{[804]} استنقذهم من خدمة فرعون وآله ، ونجاهم من الشدائد التي كانت عليهم ولحوق الوعيد بهم ، وأراهم من الآيات العجيبة : من آية{[805]} العصا واليد البيضاء وفرق{[806]} البحر وإهلاك العدو وتفجير الأنهار من حجر واحد وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها ، أن لو كانت واحدة منها لكفتهم ، ودلتهم على [ صدقه ونبوته ]{[807]} ثم ما أراهم من الآيات إذ فارقهم دعاهم السامري إلى عبادة العجل واتخاذه إلها كقوله : ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) [ طه : 88 ] فأجابوه إلى ذلك ، وأطاعوه .
وكذلك هارون – صلوات الله على نبينا وعليه- فيهم يقول : ( إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) [ طه : 90 ] فلم يجيبوه ، ولا صدقوه ، ولا اكترثوا إليه مع ما كان هارون من{[808]} أحب الناس إليهم ، فلولا أنهم كانوا مطبوعين على أخلاق البهائم والدواب لما{[809]} تركوا إجابته ، ولا عبدوا العجل مع ما أروا من الآيات التي ذكرنا .
فإذا كان إلى هذا ترجع أخلاقهم لما يبالوا ببذل{[810]} أنفسهم للقتل ، والله أعلم . ونحو ذلك قوله : ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية ؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه فضلا عن المستدل عليه ، والله أعلم .
والثاني : أنهم أروا{[811]} ثواب صبرهم [ على القتل ]{[812]} في الآخرة وجزيل جزائهم وكريم مآبهم ، فهان ذلك عليهم ، وخف ، كما روي أن امرأة فرعون [ لما علم فرعون-لعنه الله بعبادتها ]{[813]} ربها وطاعتها له أمر أن تعاقب بأشد العقوبات ، ففعل بها ، فضحكت في تلك الحال لما أريت مقامها في الجنة وكريم مآبها ، فهان ذلك عليها ، وسهل . فعلى ذلك يحتمل بذل هؤلاء أنفسهم [ للقتل ]{[814]} والصبر عليه لذلك ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.