لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

{ وإذ قال موسى لقومه } يعني الذين عبدوا العجل { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } يعني إلهاً تعبدونه فكأنهم قالوا ما نصنع قال { فتوبوا إلى بارئكم } أي ارجعوا إلى خالقكم بالتوبة قالوا كيف نتوب قال { فاقتلوا أنفسكم } يعني ليقتل البريء منكم المجرم . فإن قلت التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح والعزم على أن لا يعود إليه وهذا مغاير للقتل . فكيف يجوز تفسير التوبة بالقتل . قلت : ليس المراد تفسير التوبة بالقتل بل بيان أن توبتهم لا تتم إلا بالقتل ، وإنما كان كذلك لأن الله أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل .

فإن قلت : التائب من الردة لا يقتل فكيف استحقوا القتل وقد تابوا من الردة . قلت ذلك مما تختلف فيه الشرائع فلعل شرع موسى كان يقتضي أن يقتل التائب من الردة إما عاماً في حق الكل أو خاصاً في حق الذين عبدوا العجل .

{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } يعني القتل وتحمل هذه الشدة لأن الموت لا بد منه فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا : نصبر لأمر الله تعالى فجلسوا محتبين من الحبوة وهو ضم الساق إلى البطن بثوب ، وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته ، وأصلت القوم الخناجر والسيوف ، وأقبلوا عليهم فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فيرق له ، فما يمكنهم المضي لأمر الله تعالى فقالوا يا موسى كيف نفعل ؟ فأرسل الله تعالى عليهم سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون الله وبكيا وتضرّعا إليه وقال : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل ، فتكشف عن ألوف من القتلى .

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان عدد القتلى سبعين ألفاً فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ، فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى : { فتاب عليكم } أي فعلتم ما أمرتم به فتجاوز عنكم { إنه هو التواب } أي الرجاع بالمغفرة القابل التوبة { الرحيم } بخلقه .