قوله تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } قال ابن عباس : ذوو الحزم . وقال الضحاك : ذوو الجد والصبر . واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم ، لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى ، لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ( الأنعام-90 ) . وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة مع أعداء الدين . وقيل : هم ستة ، نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، عليهم السلام ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء . وقال مقاتل : هم ستة : نوح ، صبر على أذى قومه ، وإبراهيم ، صبر على النار ، وإسحاق ، صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف ، صبر على البئر والسجن ، وأيوب ، صبر على الضر . وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع ، فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة . قلت : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ( الأحزاب-7 ) ، وفي قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } ( الشورى-13 ) .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، أنبأنا محمد بن الحجاج ، أنبأنا السري بن حيان ، أنبأنا عباد بن عباد ، حدثنا مجاهد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر على مجهودها ، ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم ، وقال : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا ، وأجهدن كما جهدوا ، ولا قوة إلا بالله " . قوله تعالى : { ولا تستعجل لهم } أي : ولا تستعجل العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال . ثم أخبر عن قرب العذاب فقال : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب في الآخرة ، { لم يلبثوا } في الدنيا ، { إلا ساعةً من نهار } أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار ، لأن ما مضى وإن كان طويلاً كأن لم يكن . ثم قال : { بلاغ } أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم ، والبلاغ بمعنى التبليغ ، { فهل يهلك } بالعذاب إذا نزل { إلا القوم الفاسقون } الخارجون من أمر الله . قال الزجاج : تأويله : لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ، ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية .
ثم قال تعالى آمرا رسوله{[26599]} صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه ، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي : على تكذيب قومهم لهم . وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال ، وأشهرها أنهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من {[26600]} سُورَتَي " الأحزاب " و " الشورى " ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرّسُل ، وتكون { مِنَ } في قوله : { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس ، والله أعلم . وقد قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ، حدثنا السري بن حَيَّان ، حدثنا عباد بن عباد ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت لي عائشة [ رضي الله عنها ] {[26601]} : ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ، [ ثم ] {[26602]} قال : " يا عائشة ، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد . يا عائشة ، إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني - والله - لأصبرن كما صبروا جَهدي ، ولا قوة إلا بالله " {[26603]}
{ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم ، كقوله : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا } [ المزمل : 11 ] ، وكقوله { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [ الطارق : 17 ] .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } ، كقوله { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وكقوله { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [ يونس : 45 ] ، [ وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها ]{[26604]} .
وقوله : { بَلاغٌ } قال ابن جرير : يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون تقديره : وذلك لَبثَ بلاغ . والآخر : أن يكون تقديره : هذا القرآن بلاغ .
وقوله : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : لا يهلك على الله إلا هالك ، وهذا من عدله تعالى أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب .
{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } أولو الثبات و الجد منهم فإنك من جملتهم ، و{ من } للتبيين ، وقيل للتبعيض ، و{ أولو العزم } منهم أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ، ومشاهيرهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم السلام . وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده و الذبيح على الذبح ، و يعقوب على فقد الولد والبصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه { إنا لمدركون* قال كلا إن معي ربي سيهدين } وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة . { ولا تستعجل لهم } لكفار قريش بالعذاب فإنه نازل بهم في وقته لا محالة . { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة . { بلاغ } هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية ، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيده أنه قرئ " بلغ " ، وقيل { بلاغ } مبتدأ خبره { لهم } و { ما } بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم ، وقرئ بالنصب أي بلغوا بلاغا . { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة ، وقرئ يهلك بفتح اللام وكسرها من هلك وهلك ، ونهلك بالنون ونصب القوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.