قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } أي علمناه القضية وألهمناه سليمان ، { وكلاً } يعني داود وسليمان ، { آتينا حكماً وعلماً } قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده . واختلف العلماء في أن حكم داود كان بالاجتهاد أو بالنص وكذلك حكم سليمان . فقال بعضهم : فعلاً بالاجتهاد . وقالوا يجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين إلا أن داود أخطأ وأصاب سليمان . وقالوا : يجوز الخطأ على الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه ، فأما العلماء فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب ولا سنة ، فإذا أخطؤوا فلا إثم عليهم ، فإنه موضوع عنهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، أنا الشافعي ، أنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن بسر بن أبي سعيد ، عن قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " . وقال قوم : إن داود وسليمان حكما بالوحي ، وكان حكم سليمان ناسخاً لحكم داود ، وهذا القائل يقول : لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحي ، وقالوا : لا يجوز الخطأ على الأنبياء ، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر الآية وبالخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ ، وهو قول أصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيباً بل إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ، ولو كان كل واحد مصيباً لم يكن للتقسيم معنى ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا اجتهد فأخطأ فله أجر " ، لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ، والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أنا أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان وأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله فهو ابنها فقضى به للصغرى "
قوله تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير } أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود إذا سبح ، قال ابن عباس : كان يفهم تسبيح الحجر والشجر . قال وهب : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير . وقال قتادة : ( يسبحن ) أي يصلين معه إذا صلى . وقيل : كان داود إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه . { وكنا فاعلين } ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير .
وقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن حميد ؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال{[19718]} ما يبكيك ؟ قال{[19719]} يا أبا سعيد ، بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان ، عليهما السلام ، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود . ثم قال - يعني : الحسن - : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا : لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدًا ، ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ{[19720]} ] } [ ص : 26 ] وقال : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة : 44 ] .
قلت : أما الأنبياء ، عليهم السلام ، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل . وهذا مما لا خلاف{[19721]} فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ{[19722]} فله أجر " {[19723]} فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه " إياس " من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم .
وفي السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار{[19724]} .
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا علي بن حَفْص ، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، جاء{[19725]} الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا . فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها ، لا تَشُقه ، فقضى به للصغرى " {[19726]} .
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما{[19727]} وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء : ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق ){[19728]} .
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة " سليمان عليه السلام " من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة{[19729]} ملخصها - : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على{[19730]} كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند داود ، عليه السلام ، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها . فلما كان عشية ذلك اليوم ، جلس سليمان ، واجتمع معه وِلْدانٌ ، مثله ، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك ، وآخر بزيّ المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فقال لأولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود . فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر . وقال الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض . فأمر بقتلهم ، فحكي ذلك لداود ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة ، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم{[19731]}
وقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء ، فتجاوبه ، وتَرد عليه الجبال تأويبًا ؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب [ جدًا ]{[19732]} . فوقف واستمع لقراءته ، وقال : " لقد أوتي هذا مزامير آل داود " . قال يا رسول الله ، لو علمت أنك تسمع{[19733]} لحبرته لك تحبيرًا{[19734]} .
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال : لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.