قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } ، قال ابن عباس ، وابن الزبير ومحمد ابن إسحاق ، والسدي : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، في أربعين راكباً من كفار قريش ، فيهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة ، حتى إذا كانوا قريباً من بدر ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فندب أصحابه إليه ، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة . وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ، وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها قلقة ، فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا رأيت ، فاكتميها ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش . قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ، متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ قلت : وما ذاك ؟ قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ؟ قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب ، أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقاً فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال العباس : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت . قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير ، وأيم الله ، لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيكنه . قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد ، فرأيته ، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ؟ أكل هذا فرقاً مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، سمع صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي وافقاً على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله ، وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً ، فلم يتخلف من أشراف قريش أحد ، إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ وادياً يقال له ذا قرد ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم ، فأخبره بهم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمض لما أراك الله فنحن معك ، فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، يعني مدينة الحبشة ، فجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . قال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشط ذلك . ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ، قال ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال : فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فذلك قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير .
قوله تعالى : { وتودون } ، أي : تريدون .
قوله تعالى : { أن غير ذات الشوكة تكون لكم } ، يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة ، ويقال السلاح .
قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق } أي يظهره ويعليه .
قوله تعالى : { بكلماته } بأمره إياكم بالقتال . وقيل : بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه .
قوله تعالى : { ويقطع دابر الكافرين } ، أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} العير أو هزيمة المشركين وعسكرهم، {أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة} يعنى العير، {تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} يقول: يحقق الإسلام بما أنزل إليك، {ويقطع دابر الكافرين} يعني أصل الكافرين ببدر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكروا أيها القوم "إذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ "يعني: إحدى الفرقتين، فرقة أبي سفيان بن حرب والعير، وفرقة المشركين الذين نفروا من مكة لمنع عيرهم. وقوله: "أنّها لَكُمْ" يقول: إن ما معهم غنيمة لكم. "وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَة تَكُونُ لَكُمْ" يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة، يقول: ليس لها حدّ ولا فيها قتال أن تكون لكم، يقول: تودّون أن تكون لكم العير التي ليس فيها قتال لكم دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم الذين في لقائهم القتال والحرب...
"ويُرِيدُ اللّهُ أنْ يُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ"
يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحقّ الإسلام ويعليه بكلماته، يقول: بأمره إياكم أيها المؤمنون بقتال الكفار، وأنتم تريدون الغنيمة والمال.
وقوله: "وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ" يقول: يريد أن يجبّ أصل الجاحدين توحيد الله. وقد بيّنا فيما مضى معنى دابر، وأنه المتأخر، وأن معنى قطعه الإتيان على الجميع منهم... هذا خير لكم من العير... أي الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي غير ذات الحرب وهي العير لأن نفوسهم في لقائها أسكن، وهم إلى ما فيها من الأموال أحوج. وفي الشوكة التي كُني بها عن الحرب وجهان: أحدهما:
أنها الشدة فكُني بها عن الحرب لما فيها من الشدة، وهذا قول قطرب.
والثاني: أنها السلاح، وكُني بها عن الحرب لما فيها من السلاح، من قولهم رجل شاكٍ في السلاح، قاله ابن قتيبة. {وَيُريدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فيه قولان:
أحدهما: إظهار الحق بإعزاز الدين في وقته على ما تقدم من وعده.
والثاني: أن الحق في أمره لكم أن تجاهدوا عدوكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أن يثبته ويعليه {بكلماته} بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر: الآخر... وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. والشوكة الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح، فقالوا: شائك السلاح وشاكي السلاح. وإنما عبر عنها بهذا التعبير للتعريض بكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال. {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له {ويقطع دابر الكافرين} المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصال شأفتهم ومحق قوتهم، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] إلى أن قال: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران: 141] وقال في الثانية: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} إلى قوله {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة: 26] الخ
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وقوله: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته}... والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم. فهذا تلطف من الله بهم. والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات. فهذا كقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] أي يسَّر بكم. ومعنى {يُحق الحق}: يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال: حق الشيء، إذا ثبت قال تعالى: {أفمن حَق عليه كلمة العذاب} [الزمر: 19]. والمراد بالحق. هنا: دين الحق وهو الإسلام، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله: {حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ} [الزخرف: 29] الآية. وإحقاقه باستيصال معانديه، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}...
في هذا التعبير إشارة إلى معنى من معاني العتب، وتنبيه إلى أن الواجب هو طلب القوة، لمن كان المشركون يستضعفونهم، فيبدل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن استضعافهم قوة، وتمكينا في الأرض؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}. عبر الله تعالى بقوله يودون في جانبهم، وعبر بقوله {يريد الله} دون (يود) للإشارة إلى أن ذلك من جانب الله إرادة، وإرادة الله نافذة وهي المصلحة وهي الخير، وكان التعبير في جانبهم بقوله: {وتودون} للإشارة إلى انه مجرد ود، ولم يصر إرادة، وكيف يريدون ما لم يرد اله تعالى، وكيف وهم المؤمنون حقا وصدقا، وإرادة الله إعلاء لهم، وميلهم ميل إلى ما هو أدنى.
...الوعد من القادر القوي، الذي لا تقف عراقيل أمام إنفاذ ما يريد، هو وعد حق ويجب أن يتلقوا هذا الوعد على أنه حق...
والشوكة هي شيء محدد من طرف تحديدا ينفذ بسهولة من غيره، وأنت تجد الشوكة مدببة رفيعة من الطرف ثم يزداد عرضها من أسفلها ليتناسب الغِلْظُ مع القاعدة لتنفذ باتساع. وذات الشوكة أي الفئة القوية التي تنفذ إلى الغرض المرادَ، ولا يتأبى عليها غرض، ولذلك يقال "شاكي السلاح". فإن كنتم تتمنون وتريدون عدم ملاقاة جيش الكفار في معركة فالمولى عز وجل يقول لكم {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}. أي أن الله تعالى يريد أن ينصر الإسلام بقوة ضئيلة ضعيفة بغير عتاد على جيش قوي فيعرفون أن ربنا مؤيدهم، وبذلك يحق الحق بكلماته أي بوعده. وهناك الكلمة من الله التي قال فيها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (من الآية 137 من سورة الأعراف). هكذا كان وعد الله الذي تحقق، {ويقطع دابر الكافرين}، والدابر والدُّبرُ هي الخلف، وتقول: "قطعت دابره "أي لم أجعل له خلفا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
درسٌ قرآنيّ في كيفية الاستعداد للقتال: وهكذا نعرف من خلال ذلك، أن الاستعداد للقتال لم يكن منسجماً مع الحالة النفسية الكارهة للقتال، المحبّة للسلامة. وتلك هي نقطة الضعف الكامنة في الداخل، التي كانت تستيقظ في بعض الحالات، لتثير فيهم نوعاً من التردُّد والاهتزاز الذي لا يلبث إلاّ قليلاً، ثم يفعل الإيمان فعله، ليثبِّت المؤمنين ويقودهم إلى المسيرة الظافرة في طريق الجهاد والشهادة. وهكذا يثير القرآن في آياته الأجواء الذاتية في داخل المسلمين وخارجهم، فيحدّثنا عن نقاط الضعف، في حديث توعيةٍ وتنبيهٍ وتحذير، من أجل مراقبة ذلك كلّه في أنفسنا، لنواجه حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي بالمزيد من عوامل التركيز والتثبيت، فإن الإنسان الذي لا يكتشف نقاط ضعفه، لا يستطيع تنمية عناصر قوته، لأن الهروب من وعي المشكلة لا يهزمها، بل يعقّدها ويشلُّ فيها إمكانية الحلّ... وهذا هو السبيل الذي يريد الإسلام للمسلم أن يسير فيه: أن يواجه الواقع كما هو، فيعترف بسلبياته وإيجابياته. ثم يعالج السلبيات من مواقع الإيجابيات، لينتهي إلى النصر والفلاح من موقع المواجهة القوية، بكل ما تستلزمه من آلام وتضحيات، لأن ذلك هو الوسيلة الفعلية لإحقاق الحق وتحويله إلى قوةٍ متحركة في الواقع. إرادة الله تعالى إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} ويثبّته بوحيه وسننه في الكون، ليكون هو المهيمن على حركة الحياة، وتكون قيادته الرسولية هي الحاكمة لها في كلّ خطوط السير. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} ويستأصلهم باستئصال قوّتهم العسكرية والسياسية، ويهدم عنادهم وكبرياءهم، ويهزم كل مواقع التحدي التي يواجهون بها المسلمين. ولا بدّ للوصول إلى هذا الهدف، من معارك ضارية يقف فيها المسلمون في خط المواجهة للكافرين المعتدين، لأن القوة لا بد من أن تجابه بالقوة، كما أن عملية النصر ليست دعاءً يدعو به الداعون في مواقف الخشوع في الصلاة، وليست تمنياتٍ يحلم بها الحالمون في ما يعيشونه من أحلام اليقظة والمنام، بل هي موقف صمودٍ وصبرٍ وهجومٍ ودفاعٍ ومواقف للتحدّي المضاد الذي يرد التحديات ويواجهها بتحدّياتٍ مماثلة، فإذا عاش الإنسان حالة الضعف قليلاً في تلك المواقع، كان الدعاء سبيل قوّة روحية يستمدها من ارتباطه بالله، وكان النصر حلماً روحياً يتحرك في خط الواقع وحركته، في تطلّعٍ خاشع نحو الغيب القادم من لطف الله ورحمته.