الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } الآية . قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي : " أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكباً من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة وهي اللطيمة حتّى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال : " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها " فخرجوا لا يُريدون إلاّ أبا سفيان والركب لا يرونها إلاّ غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض .

وذلك أنّهم كانوا لم يظنّوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلقي حرباً فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم وأصحابه .

فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم فلا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتّى بلغ وادياً يقال له : وفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الاريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل فقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريش ، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال : وأحسن وقام عمر وقال وأحسن ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشيروا عليّ أيُّها الناس " .

وإنّما يُريد الأنصار ، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنّا براء من ذمامك حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلاّ على مَنْ داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم ، فلمّا قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد بن معاذ : والله كأنّك تُريدنا يا رسول الله ؟

قال صلى الله عليه وسلم " أجل " .

قال : فقد آمنّا بكَ وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غداً إنّا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء لعل الله عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ونشّطه قول سعد ثمّ قال : سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين . والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم "

وذلك قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأُخرى أبو جهل مع النفير { وَتَوَدُّونَ } تُريدون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي يحققه ويعلنه { بِكَلِمَاتِهِ } بأمره إيّاكم بقتال الكفّار { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } فيستأصلهم