الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

وقوله سبحانه : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ . . . } [ الأنفال : 7 ] في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ ، محل استيعابه كتاب سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن هِشَامٍ ، واختصاره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغه ، وقيل : أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ ، قد أَقبل من «الشام » بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه : ( إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم ، فأخرجوا إليها ، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها ) . قال : فانبعث معه من خَفَّ ، وثَقُلَ قوم ، وكرهوا الخروج ، وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ ، ولا ينظر من غاب ظهره ، فسار في ثلاث مائة وثلاثة عشر أو نحو ذلك من أصحابه بين مُهَاجِرِيٍّ وأَنْصَارِيٍّ ، وقد ظَنَّ الناس بأجمعهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يلقى حَرْباً ، فلم يكثر اسْتِعْدَادُهُمْ ، وكان أبو سُفْيَانَ في خلال ذلك يَسْتَقْصِي ، ويحذر ، فلما بلغه خُرُوجُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث ضَمْضَمَ بْنَ عَمْروٍ الغفاري إلى «مكة » يَسْتَنْفِرُ أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل «مكة » في ألف رَجُل ، أو نحو ذلك ، فلما بلغ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى اللَّه إِليه وَحْياً غير مَتْلُو يَعِدُهُ إِحدى الطَّائِفَتَيْنِ ، فَعَرَّفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فَسرُّوا ، وَوَدُّوا أن تكون لهم العِيرُ التي لا قِتَالَ معها ، فلما علم أبو سفيان بِقُرْبِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه أخذ طَرِيقَ الساحل ، وأبعد وفات ، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة » ، وأشار بعض الكُفَّارِ على بَعْضِ بالانصراف ، وقالوا : هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ ، فلننصرف فحرش أبو جهل وَلَجَّ ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة . وقال بعضٍ المؤمنين : نحن لم نخرج لِقِتَالٍ ، ولم نَسْتَعِدَّ له ، فجمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ ، وهو بِوَادٍ يسمى «دَقران » وقال : ( أشيروا علي أيها النَّاسُ ) ، فقام أبو بَكْرٍ ، فتكلم ، وأحسن ، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو ، فأعاد رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك ، فأعاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي ، فقال : لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل : ( فاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [ المائدة : 24 ] ولكن نَقُولُ : إِنا معكما مقاتلون ، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد -يعني مدينة «الحبشة »- لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا ، فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكلامه ، ودعا له بخير .

ثم قال : ( أشيروا علي أيها النَّاسُ ) فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ ، وقيل : سعد بن عبادة ، ويحتمل هما معاً ؛ فقال : يا رسول اللَّه كأنك إيانا تُريدُ مَعْشَرَ الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل ، فقال : إنا قد آمَنَّا بك ، واتبعناك ، وبَايَعْنَاكَ ، فامضِ لأَمْرِ اللَّه ، فواللَّه لو خُضْتَ بنا هذا البَحْرَ لَخُضْنَاهُ معك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على بَرَكَةِ اللَّه ، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم ) فالتقوا وكانت وقعة بدر .

( ت ) وفي «صحيح البخاري » من حَدِيثِ عائشة ، في خروج أبي بكر من «مكة » فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ الحديث ، وليست بمدينة «الحبشة » من غير شَكٍّ . فاللَّه أعلم ، ولعلهما مَوْضِعَان . انتهى .

و{ الشوكة } [ الأنفال : 7 ] عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ .

وقوله سبحانه : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرينَ } [ الأنفال : 7 ] المعنى : ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام ، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ ، أي يأتي آخرهم ، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم ، بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه ،