ولما{[34546]} لانوا بهذا الخطاب ، وأقبلوا على الملك التواب ، أقبل عليهم فقال : { وإذ } أي اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره ، ثم{[34547]} أفضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبهه عز ، واذكروا إذ { يعدكم الله } أي الجامع لصفات الكمال { إحدى الطائفتين } : العير أو النفير ، وأبدل من الإحدى - ليكون الوعد بها مكرراً - قوله : { أنها لكم } أي فتكرهون لقاء ذات الشوكة { وتودون } أي والحال أنكم تحبون محبة عظيمة { أن غير ذات الشوكة } أي السلاح والقتال والكفاح الذي به{[34548]} تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال { تكون لكم } أي العير لكونها{[34549]} لم يكن فيها إلا ناس قليل ، يقال : إنهم أربعون رجلاً ، جهلاً منكم بالعواقب ، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما{[34550]} لا يبلغ كنهه ، فسلموا له الأمر في السر والجهر تنالوا الغنى والنصر ، وقال الإمام أبو{[34551]} جعفر بن الزبير العاصمي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه : لما قصَّ سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في سوة الأعراف أخبار الأمم ، وقطع المؤمنون{[34552]} من مجموع ذلك بأنه{[34553]} لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة ، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام ، وكلاهما{[34554]} كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه ، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى{[34555]} منه على بلعام بقوله سبحانه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال ، نبهوا على ما فيه الحزم{[34556]} من ترك الأهواء جملة فقال تعالى يسألونك عن الأنفال }[ الأنفال : 1 ] الآية ، فكان قد{[34557]} قيل لهم : اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم ، وفوضوا في أمره لله وللرسول ، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك{[34558]} أمور ربكم{[34559]} وقد ألف في هذه الشريعة السمحة{[34560]} البيضاء حسم الذرائع كثيراً وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة{[34561]} ، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضاً ، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها{[34562]} ولا بما هي كذا ، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه أو استوجب حكماً لعينه وعلته الخاصة به ، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالأنفراد بها{[34563]} ورأوا أنها من حقهم وأن من{[34564]} لم يباشر قتالاً من الشيوخ ومن انحاز منه{[34565]} لمهم فلا حق له فيها ، ورأى الآخرون أيضاً{[34566]} أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة{[34567]} وملجأ وراء ظهورهم ، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله ورسوله من باب حسم الذرائع لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرئاسة{[34568]} النفوس واستسهال اتباع الأهواء{[34569]} ، فأمرهم الله بالتنزه
عن ذلك والتفويض لله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم{[34570]} و{[34571]}أوفى لدينهم{[34572]} وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الأتباع{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }[ الأنفال : 1 ] الآية ، ثم ذكروا بما ينبغي لهم أن يلتزموا فقال تعالى{ إنما المؤمنون }[ الأنفال : 2 ] - إلى قوله :{ زادتهم إيماناً }[ الأنفال : 2 ] ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغي للمؤمن أن يعتمد عليه اعتماداً يدخل عليه ضرراً من الشرك أو{[34573]} التفاتاً إلى غير الله سبحانه بقوله : { وعلى ربهم يتوكلون } ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال { أولئك هم المؤمنون حقاً } تنبيهاً على أن من قصر عن هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره ، وكان في هذا إشعار{[34574]} بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من التمسك والأتباع ، لكن أعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه ، وأنه الكمال والفوز ، ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم ، فقد كانوا تمنوا لقاء العير ، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك
ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين }[ الأنفال : 7 ] إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم{[34575]} على ما{[34576]} يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم ، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال :{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً }[ الأنفال : 29 ] الاية ، وهذا الفرقان هو{[34577]} الذي حرمه إبليس وبلعام ، فكان منهما ما تقدم من{[34578]} اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة ، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء{[34579]} ، ثم أجمل الخيران معاً في قوله{ والله ذو الفضل العظيم }[ الأنفال : 29 ] بعد تفصيل ما إليه إسراع{[34580]} المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران ، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه{[34581]} تنزيهاً للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات ، والغفران{[34582]} من{[34583]} ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلاً مع ما لا يجانسه ولا يشاكله{ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان }[ العنكبوت : 64 ] ثم التحمت الآي ، ووجه آخر وهو أنه تعالى لما{[34584]} قال { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له{[34585]} } بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله }[ الأنفال : 2 ] الآية ، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط ، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها ، ولو كانوا كذا{[34586]} لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيماناً ، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون }[ الأنفال : 21 ] ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم{ يأخذون عرض هذا الأدنى }[ الأعراف : 169 ] { ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه }[ الأعراف : 176 ] وهذه بعينها كانت آفة إبليس ، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال{ لم أكن لأسجد{[34587]} لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون }[ الحجر : 33 ] فلما كان اتباع الهوى{[34588]} أصلاً في الضلال وتنكب{[34589]} الصراط المستقيم ، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء ، والتسليم فيما لهم{[34590]} {[34591]}به تعلق{[34592]} وإن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنة تيسير لاتباع{[34593]} الهوى ، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله ، يحكم فيها ما يشاء { فاتقوا الله } واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره { وأصلحوا ذات بينكم } برفع التنازع ، وسلموا لله ولرسوله ، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة ، وبيانه في قوله { إنما المؤمنون } - الآيات ، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل ، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله{[34594]}
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا{[34595]} واسمعوا{[34596]} }[ البقرة : 104 ] ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين{[34597]} } افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم{[34598]} ، وتأمل ما بين { يا بني إسرائيل } و { يا أيها الذين آمنوا } وأمر أولئك بالإيمان{ وآمنوا بما أنزلت{[34599]} }[ البقرة : 41 ] وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل{ وقولوا انظرنا واسمعوا }[ البقرة : 104 ] ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى{[34600]} على بني إسرائيل في{[34601]} كثير من مرتكباتهم ، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم{[34602]} ما ورد{[34603]} فيها ، أعقبت بقوله تعالى ؛{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين{[34604]} }[ آل عمران : 100 ] ثم أعقبت السورة بقوله{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة{[34605]} }[ النساء : 1 ] وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة ، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار{ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً{[34606]} }[ النساء : 51 ] فهذا بهت{[34607]} ، ومنها قولهم{ الله فقير ونحن أغنياء{[34608]} }[ آل عمران : 181 ] إلى ما تخلل هاتين{[34609]} من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم ، فعدل عن { يا أيها الذين آمنوا } إلى { يا أيها الناس } ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر ، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات }[ النساء : 160 ] - إلى قوله :{ وأكلهم أموال الناس بالباطل{[34610]} }[ النساء : 161 ] أتبعت بقوله تعالى{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود{[34611]} }[ المائدة : 51 ] ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك ، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة ، وبين فيها اعتداءهم ، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض ، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة ، فقيل في آخر السورة{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا }[ الأعراف : 201 ] ثم افتتحت السورة{[34612]} الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم ، فكان قد قيل لهم : ترك هذا أسلم وأبعد عن اتباع الأهواء ، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله ، ثم تناسج السياق والتحمت الآي ، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه ، والحمد لله - انتهى .
ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير ، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا ، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما{[34613]} يقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره ، فقال تعالى عاطفاً على { وتودون } : { ويريد الله } أي بما له من العز والعظمة والعلم { أن يحق الحق } اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب ، وهو هنا إصابة ذات الشوكة { بكلماته } أي التي أوحاها إلى{[34614]} نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون ، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر { ويقطع دابر } أي آخر { الكافرين* } أي كما يقطع أولهم ، أي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد ، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم