معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

قوله تعالى : { هل ينظرون } . أي هل ينتظر التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان ، يقال : نظرته وانتظرته ، بمعنى واحد ، فإذا كان النظر مقروناً بذكر الله أو بذكر الوجه أو إلى ، لم يكن إلا بمعنى الرؤية .

قوله تعالى : { إلا أن يأتيهم الله في ظلل } . جمع ظلة .

قوله تعالى : { من الغمام } . وهو السحاب الأبيض الرقيق ، سمي غماماً لأنه يغم أي يستر ، وقال مجاهد : هو غير السحاب ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم : قال مقاتل : كهيئة الضباب أبيض ، قال الحسن : في سترة من الغمام فلا ينظر إليهم أهل الأرض .

قوله تعالى : { والملائكة } . قرأ أبو جعفر بالخفض عطفاً على الغمام ، تقديره : " مع الملائكة " ، تقول العرب : " أقبل الأمير في العسكر " ، أي مع المعسكر ، وقرأ الباقون بالرفع على معنى : إلا أن تأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، والأولى في هذه الآية وما شاكلها ، أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى ، أو يعتقد أن الله عز اسمه منزه عن سمات الحدوث ، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة . قال الكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، وكان مكحول و الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله : أمرها كما جاء بلا كيف ، قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته ، والسكوت عليه ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله . قوله تعالى : { وقضي الأمر } . أي وجب العذاب ، وفرغ من الحساب ، وذلك فصل الله القضاء بالحق بين الخلق يوم القيامة .

قوله تعالى : { وإلى الله ترجع الأمور } . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء ، وكسر الجيم وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

204

بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان . فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب :

( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ؟ وقضي الأمر ، وإلى الله ترجع الأمور ) . .

وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة ؟ ماذا ينتظرون ؟ وماذا يرتقبون ؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة ؟ وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود ، الذي قال الله سبحانه : إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام ، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟

وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أن اليوم قد جاء ، وأن كل شيء قد انتهى ، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها :

( وقضي الأمر ) . .

وطوي الزمان ، وأفلتت الفرصة ، وعزت النجاة ، ووقفوا وجها لوجه أمام الله ؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور :

( وإلى الله ترجع الأمور ) . .

إنها طريقة القرآن العجيبة ، التي تفرده وتميزه من سائر القول . الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة ، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه !

فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم ؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم ؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم ! والسلم منهم قريب . السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . يوم يقضي الأمر . . وقد قضي الأمر ! ( وإلى الله ترجع الأمور ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

إن كان الإضمار جارياً على مقتضى الظاهر فضمير { ينظرون } راجع إلى معادٍ مذكور قبلَه ، وهو إما { مَنْ يعجبك قولُه في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] ، وإما إلى { مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } [ البقرة : 207 ] ، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء ، فأحد الفريقين ينتظره شكاً في الوعيد بالعذاب ، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب . ونظيره قوله : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين } [ يونس : 102 ] فانتظارهم أيام الذين خَلَوْا انتظارُ توقع سوءٍ انتظار النبي معهم انتظار تصَديقِ وعيده .

وإن كان الإضمار جارياً على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطَبين بقوله { ادخلوا في السِّلم } [ البقرة : 208 ] وما بعده ، أو إلى الذين زَلوا المستفاد من قوله : { فإن زللتم } [ البقرة : 209 ] ، وهو حينئذٍ التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعاً إلى المخاطبين بقوله { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 208 ] ، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله { فإن زللتم } عن عز الحضور ، قال القرطبي { هل ينتظرون } يعني التاركين الدخول في السلم ، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام ، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي .

فإن كان الضمير لمن يعجبك أوْ له ولمن يشري نفسه ، فالجملة استئناف بياني ، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثيران سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } جواباً لذلك ، وإن كان الضمير راجعاً إلى { الذين آمنوا } فجملة { هل ينظرون } استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعاً في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله : { فإن زللتم } [ البقرة : 209 ] فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة { إن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] لأن معناه فإن زللتم فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم ، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة ، وإن كان الضمير عائداً إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام . وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله { هل ينظرون } بضمير الجمع نظماً جامعاً للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء .

وحرف ( هل ) مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه ، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في « الكشاف » : إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة ، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة في قول زيد الخيل :

سائِلْ فوارسَ بَرْبُوع بِشِدَّتنا *** أَهَلْ رَأَوْنَا بسَفَححِ القاع ذي الأَكَم

وقال في « المفصل » : وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلاّ أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلاّ في الاستفهام اهـ . يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام ، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } [ الإنسان : 1 ] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلاّ في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبيِّ :

فلاَ والله لاَ يُلْفَى لما بي *** ولا لِلِمَا بهم أبداً دَواء

فجمع بين لامي جر ، وأيّاً ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقعها ، وسيأتي هذا في تفسير قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } في سورة الإنسان .

والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء ، فالكلام خبر في صورة الاستفهام . والنظر : الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه ، لأن الذي يترقب أحداً يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدو ، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون بأبصارهم في الآخرة إلاّ إتيان أمر الله والملائكة ، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك ، إلاّ أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله ، فيكون قصراً ادعائياً ، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك .

وهذا المركب ليس مستعملاً فيما وضع له من الإنكار بل مستعملاً إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير ، وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه ، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين ، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] . ويجوز على هذا أن يكون خبراً عن اليهود : أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] .

وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم : { وقالوا نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } [ الإسراء : 90 ، 92 ] ، وسيجيء القول مشبعاً في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام في سورة البقرة .

و ( الظلل ) بضم ففتح اسمُ جمَع ظلة ، والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفَّة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يُجْلَس تحتها لتوقي شعاع الشمس ، فهي مشتقة من اسم الظّل جعلت على وزن فُعْلَة بمعنى مفعولة أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد .

والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى : { إلا من اغترف غرفة بيده } [ البقرة : 249 ] في قراءة بعض العشرة بضم الغين .

وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيهاً بليغاً : السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظلة القصر .

و { من الغمام } بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] .

والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به ، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه ، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي ، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل ، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل ، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت ، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه ، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول ، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون :

الوجه الأول ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى ، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث . فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها :

الوجه الثاني : أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي ، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول : أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه ، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] وقال { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ النحل : 26 ] وليس قوله : { في ظلل من الغمام } بمناف لهذا المعنى ، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفاً بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان { في ظلل من الغمام } قريباً .

الوجه الثالث : إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه { في ظلل من الغمام } زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين .

الوجه الرابع : يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعاً من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة .

الوجه الخامس : أن هنالك مضافاً مقدراً أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآننِ أو يأتي أمر ربك وقوله : { فجاءها بأسنا بياتاً } [ الأعراف : 4 ] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازاً في ظهور الأمر .

الوجه السادس : حذف مضاف تقديره ، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله : { في ظلل من الغمام } إلاّ أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث .

الوجه السابع : أن هنالك معمولاً محذوفاً دل عليه قوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه . والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً .

وقد ذكرتُ في تفسير قوله تعالى : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات } في [ سورة آل عمران : 6 ] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام : قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا ، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسبُ دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة ، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر ، وقسم متشابه شديد التشابه .

وقوله تعالى : { في ظلل من الغمام } أشد إشكالاً من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية ، وهي مستحيلة على الله تعالى ، وتأويله إما بأن ( في ) بمعنى الباء أي { يأتيهم بظلل من الغمام } وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيوياً ، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه { وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } [ الطور : 44 ] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب ، أو على كلامه تعالى ، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني ، وفي « تفسير القرطبي والفخر » قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً ، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة ، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك ، وهذه الوجوه كلها مبنية على أن هذا إخبار بأمر مستقبل ، فأما على جعل ضمير { ينظرون } مقصوداً به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكماً أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام ، ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين ، فإنهم قالوا لموسى : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] واعتقدوا أن الله في الغمام ، أو يكون المراد تعريضاً بالمشركين ، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان .

وقرأه الجمهور « والملائكة » بالرفع عطفاً على اسم الجلالة ، وإسنادُ الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه ، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملاً في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازاً في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك ؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة ، قال حُمَيْد بن ثَوْر يمدح عبد الملك :

أتاك بي الله الذي نَوَّر الهدى *** ونورٌ وإسلامٌ عليكَ دليل

فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسنادٌ حقيقي ثم أسنده بالعطف للنورِ والإسلام ، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال « عليك دليل » .

وقرأ أبو جعفر « والملائكة » بجر ( الملائكة ) عطف على ( ظلل ) .

وقوله : { وقُضي الأمر } إما عطف على جملة { هل ينظرون } إن كانت خبراً عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل ، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه ، والمعنى ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر ، وإما عطف على جملة { ينظرون } إن كانت جملة { هل ينظرون } وعيداً أو وعداً والفعل كذلك للاستقبال ، والمعنى ما يترقبون إلاّ مجيء أمر الله وقضاءَ الأمر .

وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد ، سواء كانت جملة { هل ينظرون } خبراً أو وعداً ووعيداً أي وحينئذٍ قد قضي الأمر ، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملَك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] .

والقضاء : الفراغ والإتمام .

والتعريف في ( الأمر ) إما للجنس مراداً منه الاستغراق أي قُضِيت الأمور كلها ، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء .

وقوله : { وإلى الله ترجع الأمور } تذييل جامع لمعنى : { وقضى الأمر } والرجوع في الأصل : المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع ، ويستعمل مجازاً في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره ، فمنه { ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى : 53 ] .

ويجيء فعل رجع متعدياً ، تقول رجعت زيداً إلى بلده ومصدره الرَّجْع ، ويستعمل رجع قاصراً تقول : رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجُوع .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عَمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ( تُرجع ) بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجَعَه مبنياً للمفعول أي يَرْجع الأمورَ راجعُها إلى الله ، وحذفُ الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عُرفي لهذا الرجع ، أو حُذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلاً للرجوع ومفعولاً له بحرف إلى ، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمورُ فاعل تَرْجع .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هل ينظر المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، "إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة".

ثم اختلفت القراء في قراءة قوله: "وَالمَلائِكَةُ"؛ فقرأ بعضهم: "هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ" بالرفع عطفا بالملائكة على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام... عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ بن كعب: «هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمُ اللّهُ وَالمَلائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ» قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عز وجل فيما شاء.

وقرأ ذلك آخرون: «هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والملائِكَةِ» بالخفض عطفا بالملائكة على الظلل بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة.

وكذلك اختلفت القراء في قراءة «ظلل»، فقرأها بعضهم: «في ظلل»، وبعضهم: «في ظلال». فمن قرأها «في ظلل»، فإنه وجهها إلى أنها جمع ظلة، والظلة تجمع ظلل وظلال، كما تجمع الخلة خلل وخلال، والجلة جلل وجلال. وأما الذي قرأها "في ظلال" فإنه جعلها جمع ظلة، كما ذكرنا من جمعهم الخلة خلال.

وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك وجهه إلى أن ذلك جمع ظل، لأن الظلة والظل قد يجمعان جميعا ظلالاً.

والصواب من القراءة في ذلك عندي "هَلْ يَنْظُرُون إلاّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ"...اتباعا لخط المصحف. وكذلك الواجب في كل ما اتفقت معانيه واختلفت في قراءته القراء ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خط المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رسم المصحف.

وأما الذي هو أولى القراءتين في: "وَالمَلائِكَةُ" فالصواب بالرفع عطفا بها على اسم الله تبارك وتعالى على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة على ما رُوي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: "وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا" وقال: "هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ تأتِيهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأتي رَبّكَ أوْ يَأتي بَعْض آياتِ رَبّكَ". فإن أشكل على أمرئ قول الله جل ثناؤه: "وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا" فظنّ أنه مخالف معناه معنى قوله "هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمْ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ" إذ كان قوله «والملائكة» في هذه الآية بلفظ جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظانّ، وذلك أن الملَك في قوله: "وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ" بمعنى الجميع، ومعنى الملائكة، والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع، فتقول: فلان كثير الدرهم والدينار، يراد به الدراهم والدنانير، وهلك البعير والشاة بمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله: "وَالمَلَكُ" بمعنى الملائكة.

ثم اختلف أهل التأويل في قوله: "ظُلَلٍ مِنّ الغَمامِ"؛ وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة فعل الملائكة، ومن الذي يأتي فيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وأن تأتيهم الملائكة. وقال آخرون: بل قوله فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمام من صلة فعل الملائكة، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الربّ تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء. وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجه قوله: "في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ" إلى أنه من صلة فعل الربّ عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة. وأما معنى قوله: "هَلْ يَنْظُرُونَ": فإنه ما ينظرون.

ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله: "هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ"؛ فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عزّ وجل من المجيء والإتيان والنزول، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه، فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا.

وقال آخرون: إتيانه عز وجل نظير ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع وانتقاله من مكان إلى مكان.

وقال آخرون: معنى قوله: "هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ": هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله، كما يقال: قد خشينا أن يأتينا بنو أمية، يراد به حكمهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: "بَلْ مَكْرُ اللّيْلِ وَالنّهارِ" وكما يقال: قطع الوالي اللصّ أو ضربه، وإنما قطعه أعوانه.

فمعنى الكلام إذا: هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.

...

.

ويوضح أيضا صحة ما اخترنا في قراءة قوله: وَالمَلائِكَةُ بالرفع على معنى: وتأتيهم الملائكة، ويبين عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تفطر السماء قبل أن يأتيهم ربهم في ظلل من الغمام، إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين يأتون أهل الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام فيكون ذلك وجها من التأويل وإن كان بعيدا من قول أهل العلم ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.

"وَقُضِيَ الأمْرُ وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ": وفصل القضاء بالعدل بين الخلق، على ما ذكرناه قبل عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أخْذِ الحَقّ لِكُلّ مَظْلُومٍ مِنْ كُلّ ظالِمٍ، حتّى القِصَاص للجمّاء من القرْناء مِنَ البهائِم».

"وإلى الله تُرْجَعُ الأمُورُ": وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا من ظلم بعضهم بعضا، واعتداء المعتدي منهم حدود الله، وخلاف أمره، وإحسان المحسن منهم، وطاعته إياه فيما أمره به، فيفصل بين المتظالمين، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرا فيعفو ولذلك قال جل ثناؤه: "وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ"، وإن كانت أمور الدنيا كلها والاَخرة من عنده مبدؤها وإليه مصيرها، إذ كان خلقه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظر بينهم أحيانا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده، فيجور بعض، ويعدل بعض، ويصيب واحد، ويخطئ واحد، ويمكّن من تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذّر ذلك على بعض لمنعة جانبه وغلبته بالقوّة.

فأعلم عباده تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة، فينصف كلاّ من كل، ويجازي حق الجزاء كلاّ، حيث لا ظلم ولا ممتنع من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقير والغنيّ، ويضمحل الظلم وينزل سلطان العدل.

وإنما أدخل جل وعز الألف واللام في الأمور لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع دون بعض.

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

وقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور}. فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله عز وجل في ذلك اليوم، يسمى ذا الفعل مجيئا وإتيانا.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" وقضي الأمر ": فزع لهم مما كانوا يوعدون به. وقوله: "وإلى الله ترجع الأمور "لا يدل على أن الامور ليست إليه الآن وفي كل وقت. ومعنى الآية الإعلام في أمر الحساب، والثواب، والعقاب أي إليه، فيعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فلا حاكم سواه.

ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا أحد ممن يملك في دار الدنيا إلا ويزول ملكه ذلك اليوم. وشبهت الأهوال بالظلل من الغمام، كما قال: {موج كالظلل}

ومعنى الآية: {ما ينظرون} -يعني المكذبين بآيات الله- محمدا وما جاء به من القرآن والآيات إلا أن يأتيهم أمر الله وعذابه {في ظلل من الغمام والملائكة}، فهل بمعنى (ما)، كما يقول القائل: هل يطالب بمثل هذا إلا متعنت أي ما يطالب.

و {ينظرون} -في الآية- بمعنى ينتظرون. فكأن المعنى في الآية: إن الناس في الدنيا يعتصم بعضهم ببعض، ويفزع بعضهم إلى بعض في الكفر والعصيان، فاذا كان يوم القيامة انكشف الغطاء، وأيقن الشاك، وأقر الجاحد، وعلم الجاهل، فلم يعصم أحد من الله أحدا، ولم يكن له من دون الله ناصر، ولا من عذابه دافع، وعلم الجميع أن الأمر كله لله.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

استبطأ القومُ قيامَ الساعةِ فأخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر. وتلك أفعال في معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال في علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد.

{وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها، إذ الحق سبحانه مُنَزَّهُ عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث. ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب الله قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. {وَقُضِىَ الأمر} وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ذكرنا أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} حكاية عن اليهود، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه، وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.

وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال.

{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} أي آيات الله فجعل مجيء الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات...

والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية. فإن قيل: فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور}. قلنا: الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال: {وإلى الله ترجع الأمور} وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق، والله أعلم بحقيقة كلامه.

أما قوله تعالى: {والملائكة} فهو عطف على ما سبق، والتقدير: وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.

{وقضي الأمر} المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به فعند ذلك لا تقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة.

[ف] قوله: {وقضى الأمر} معناه: ويقضي الأمر والتقدير: إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن، وخصوصا في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيرا بالماضي، قال الله سبحانه وتعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني} والسبب في اختيار هذا المجاز أمران:

أحدهما: التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه

والثاني: المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل.

[و] الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق. وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار،

قال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق}. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وقضي الأمر} يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف، فإنه تعالى ليس لقضائه دافع، ولا لحكمه مانع.

{وإلى الله ترجع الأمور}: أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه كما قال: {والأمر يومئذ لله}... ونظيره قوله تعالى: {وإلى الله المصير} مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه الثاني:

قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.

أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية: {وقضي الأمر} وهو قاضيها

والثاني: أنه على مذهب العرب في قولهم: فلان يعجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يذهب بك، وإن لم يكن أحد يذهب به

والثالث: أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: {ترجع الأمور} أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كما قال: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال، لا بحسب النطق باللسان، وعليه يحمل أيضا قوله: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} قيل: إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله، فكذا يجوز أن يقال: إن العباد يردون أمورهم إلى الله، ويعترفون برجوعها إليه، أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكفار فبشهادة الحال.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان هذا الختم مؤذناً بالعذاب وكان إتيان العذاب من محل تتوقع منه الرحمة أفظع وكان أنفع الأشياء السحاب لحمله الغيث والملائكة الذين هم خير محض وكان الذين شاهدوا العذاب من السحاب الذي هو مظنة الرحمة ليكون أهول عاداً وبني إسرائيل وكان عاد قد مضوا فلا يمكن عادة سؤالهم وكان من زل بعد هذا البيان قد أشبه بني إسرائيل في هذا الحال فكان جديراً بأن يشبههم في المآل فيما صاروا إليه من ضرب الذلة والمسكنة وحلول الغضب والوقوع في العطب قال تعالى:

{هل ينظرون} أي ينتظرون إذا زلوا. سائقاً له في أسلوب الإنكار، وصيغة الغيبة مجردة عن الافتعال تنبيهاً على أن الزالين في غاية البعد عن مواطن الرأفة والاستحقاق بمظهر الكبر والنقمة بإعراض السيد عن خطابهم وإقباله من عذابهم على ما لم يكن في حسابهم {إلا أن يأتيهم الله} أي مجد الذي لا يحتمل شيء تجلى عظمته وظهور جلاله، كائناً مجده {في ظلل من الغمام} ظلة في داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها وتدمر ما أتت عليه -إلى غير ذلك من أنواع المجد الذي لا يقدره حق قدره إلا الله {والملائكة} أي ويأتي جنده الذين لا يعصون الله ما أمرهم، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض، المعنى وظلل من الملائكة أي جماعات يملؤون الأقطار ليتبادروا إلى امتثال أوامره؛ وهل ينتظرون من القوي المحكم لما يفعل العزيز الذي يعلو أمره كل أمر إلا إتيانه بالبأس إذا غضب بعد طول الحلم وتمادي الأناة فلا يرد بأسه ولا يعارض أمره وهو المراد من قوله: {وقضى} أي والحال أنه قد قضي {الأمر} أي نفذ بإهلاكهم سريعاً فرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بأسرهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً {وإلى الله} الذي له الإحاطة الكاملة وحده {ترجع الأمور} كلها دنيا وأخرى، فإن حكمه لا يرد وقدرته لا تحد.

قال الحرالي: وإتيان الله في محل الإيمان أمر مبهم لا يناله علم العالمين ويقف دونه إيمان المؤمنين، لا يأخذونه بكيف ولا يتوهمونه بوهم، وإتيان الله في أوائل فهم الفاهمين بدو أمره وخطابه في محل ما من السماء والأرض أو العرش أو الكرسي أو ما شاء من خلقه؛ فهو تعالى يجل أن يحجبه كون، فحيث ما بدأ خطابه كفاحاً لا بواسطة فهناك هو {وناديناه من جانب الطور الأيمن} [مريم: 52] إلى: {إني أنا الله} [طه: 14]...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان بأن سوءَ صنيعهم موجبٌ للإعراض عنهم، وحكايةُ جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريق المباتة، وإيرادُ الانتظارِ للإشعار بأنهم لانهماكهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والحكمة في الالتفات تناول هذا الوعيد لجميع من زل من المؤمنين المخاطبين في الدخول في السلم والمنهيين عن ضده، ومن زل من غيرهم أو هي الإيذان بأن الزالين لا يستحقون شرف الخطاب الإلهي.

قال الأستاذ الإمام إن الحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة النفوس على احتماله، وذلك أبلغ في هوله [ما من دهي بالأمر كالمعتد] وهو ذلك الغمام الذي يحدث عن تخريب العالم فجأة فيأتيهم العذاب، قبل أن يتبدد الغمام الناشئ عن الخراب. وهذا القول يتفق مع الأول، وهو أقرب إلى معنى قوله تعالى في الساعة: {لا تأتيكم إلا بغتة} (الأعراف: 187).

وإذا جرينا على هذه الطريقة التي أرشدتنا إليها الآية السابقة على الوجه الأول في تفسيرها فحملنا بعض الآيات على بعض واسخرجنا المعنى من مجموعها كان لنا أن نقول: إذا وقعت الواقعة، وقرعت القارعة، وكورت الشمس، وتناثرت الكواكب، وانشقت السماء شقا، ورجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت أولا كالعهن المنفوش ثم صارت هباء منبثا، فإن مادة هذا الكون تعود كما كانت قبل التكوين أي مادة سديمية وهي ما عبر عنه في بدء التكوين بالدخان، وفي الحكاية عن الخراب بالغمام. وأما إتيان الملائكة هنا فهو بمعنى نزولهم في قوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25) أي وتأتيهم الملائكة الموكلة بكل ما قضاه الله يومئذ

وقوله {وقضي الأمر} جملة حالية أي كيف ينتظرون غير ذلك وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفر منه {وإلى الله ترجع الأمور} فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه فهو الأول ومنه بدأت الأشياء، وهو الآخر وإليه ترجع وتصير، وهو بكل شيء محيط: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذوا إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمان: 23 – 24).

وذكر الأستاذ الإمام في تفسير الآية وجها آخر يعد بيانا للقول بأن الإتيان مسند إلى الله تعالى، على أنه هو الذي يأتي على ظاهر مذهب السلف لا عذابه ولا يومه الموعود، وهو من الآيات الكبرى، وأسرار المعارف العليا، فقال ما مثاله: من الناس من يؤمن بالله تعالى وصحة دينه إيمانا موافقا لما جاء في كتابه ويكون في إيمانه على حق اليقين، والاطمئنان الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب، وأهل هذا اليقين هم الذين يقال إن الله حاضر عندهم وأنه معهم أينما كانوا، لأن معرفته تثبت في عقولهم، والتوكل عليه قد لابس قلوبهم، وهم الذين قال قائلهم: لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا. ومنهم من ليس له تلك المعرفة وهذا اليقين، فلا يقال إن الله عندهم لأن ما حضر في عقله هو غير ما وصف الله تعالى به نفسه، وشهدت به آياته في كتابه وآياته في خلقه، ثم هو ليس على يقين مما عنده، أولئك أصحاب الظنون وأرباب الشكوك، وحملة التقاليد الذين زلوا من بعد ما جاءتهم البينات، فاتخذوا بينهم وبين الله حجابا ووسطاء، وشبهوه بخلقه في كثير من الشؤون، فهم غائبون عن الله تعالى ومحجوبون عن ربهم، بحيث لا تطوف معرفته الحقيقية بعقولهم، ولا تلابس عظمته وكماله قلوبهم، فإذا كان يوم القيامة وكشف الحجاب عرفوا الله ربهم الحق، وتبين لهم ما كانوا عليه من الباطل، فذلك إتيان الله لهم، أي يأتيهم من معرفته ما كانوا غائبين عنه ومحرومين منه في الدنيا. والإتيان يكون في المعقولات، كما يكون في المحسوسات، فلا حاجة إلى التأويل.

إن هؤلاء الزالين عن صراط الله تعالى صنفان:

صنف اعتقدوا الباطل حقا فلم يعرفوا حقيقة التوحيد ورجوع كل أمر إلى من أعطى كل شيء خلقه على سنن ثابتة، ولا غير التوحيد من أصول الإيمان.

وصنف اتبعوا الظن، وهاموا في أودية الوهم، فلم يكونوا على بينة من هذا الأمر، فإذا ما تجلى الله تعالى في ذلك اليوم للأرواح، وزالت الحجب التي كانت دونها في سجن الأشباح، زال جهل الجاهلين، وانكشف ظن الظانين وبطل وهم الواهمين، وعرف الجميع رب العالمين، بما جاءهم من الحق اليقين، فذلك مجيء الله تعالى وإتيانه في الدين. هذا ما تجلى به مسألة الإتيان على مذهب السلف.

قال الغزالي وغيره من أئمة الصوفية إن الحجب أي الموانع التي تمنع العبد من معرفة الحق كثيرة أكثفها نفسه وهذه الحجب تزال يوم القيامة عن المؤمنين إلا حجابا واحدا فيعرفون الحق معرفة كاملة تستغرق الروح وذلك ما عبر عنه بالرؤية وبمجيء الله وإتيانه. فالغمام في هذا المقام التمثيلي إشارة إلى الحجاب الذي لا يحصل كمال المعرفة الممكنة بدونه وبذلك تتفق الآيات مع الأحاديث: {ولله المثل الأعلى} (النحل: 60) {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11).

ولنا أن نقول على هذه الطريقة مع تفسيرنا الغمام بمادة التكوين الأولى كما مر أن الحجب التي تشغل الإنسان عن ربه في الدنيا حظوظ النفس وشهواتها وشواغل الحس بالمحسوسات والفكر بالمدركات كلها ترتفع فلا تعود حائلة دون كمال العلم بالله تعالى. ما خلا سر الإيجاد والتكوين الأول مم كان وبم كان وكيف كان؟ فهذا لا يرفع في الدنيا للموقنين، ولا في الآخرة للمقربين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان. فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة؟ وقضي الأمر، وإلى الله ترجع الأمور}.. وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة. ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة؟ ماذا ينتظرون؟ وماذا يرتقبون؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله -سبحانه- في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة؟ وبتعبير آخر: هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود، الذي قال الله سبحانه: إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا؟

وفجأة -وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب- نجد أن اليوم قد جاء، وأن كل شيء قد انتهى، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها: {وقضي الأمر}.. وطوي الزمان، وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجها لوجه أمام الله؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور: (وإلى الله ترجع الأمور)..

إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول. الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه! فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم! والسلم منهم قريب. السلم في الدنيا والسلم في الآخرة {يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}. {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا}. يوم يقضي الأمر.. وقد قضي الأمر! {وإلى الله ترجع الأمور}...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إن كان الإضمار جارياً على مقتضى الظاهر فضمير {ينظرون} راجع إلى معادٍ مذكور قبلَه، وهو إما {مَنْ يعجبك قولُه في الحياة الدنيا} [البقرة: 204]، وإما إلى {مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة: 207]، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء، فأحد الفريقين ينتظره شكاً في الوعيد بالعذاب، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب. ونظيره قوله: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين} [يونس: 102] فانتظارهم أيام الذين خَلَوْا انتظارُ توقع سوءٍ انتظار النبي معهم انتظار تصَديقِ وعيده. وإن كان الإضمار جارياً على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطَبين بقوله {ادخلوا في السِّلم} [البقرة: 208] وما بعده، أو إلى الذين زَلوا المستفاد من قوله: {فإن زللتم} [البقرة: 209]، وهو حينئذٍ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعاً إلى المخاطبين بقوله {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 208]، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله {فإن زللتم} عن عز الحضور،

فإن كان الضمير [ل] {من يعجبك قوْ له} و [ل] {من يشري نفسه}، فالجملة استئناف بياني، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثيران سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} جواباً لذلك،

وإن كان الضمير راجعاً إلى {الذين آمنوا} فجملة {هل ينظرون} استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعاً في ثوابه

وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله: {فإن زللتم} [البقرة: 209] فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة {إن الله عزيز حكيم} [البقرة: 209] لأن معناه فإن زللتم فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة،

وإن كان الضمير عائداً إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام. وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله {هل ينظرون} بضمير الجمع نظماً جامعاً للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء.

وحرف (هل) مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء، فالكلام خبر في صورة الاستفهام.

والنظر: الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه، لأن الذي يترقب أحداً يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدو، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون بأبصارهم في الآخرة إلاّ إتيان أمر الله والملائكة، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك، إلاّ أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله، فيكون قصراً ادعائياً، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك. وهذا المركب ليس مستعملاً فيما وضع له من الإنكار بل مستعملاً

إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير، وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين،

وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55]. ويجوز على هذا أن يكون خبراً عن اليهود: أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 145].

والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفَّة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يُجْلَس تحتها لتوقي شعاع الشمس، فهي مشتقة من اسم الظّل جعلت على وزن فُعْلَة بمعنى مفعولة أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد.

والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت...

أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين، أو هو مجاز في الاستئصال قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2] وقال {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [النحل: 26] وليس قوله: {في ظلل من الغمام} بمناف لهذا المعنى، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفاً بذلك لتشعر به الملائكة والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً.

والتعريف في (الأمر) إما للجنس مراداً منه الاستغراق أي قُضِيت الأمور كلها، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء.

وقوله: {وإلى الله ترجع الأمور} تذييل جامع لمعنى: {وقضى الأمر} والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازاً في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره، فمنه {ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 53].

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

نادى الله سبحانه أهل الإيمان بأن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، وأن يدخلوا في السلام العام، كما يقيم فيما بينهم السلام والأمن، وحذرهم من الشيطان وغروره، وحذرهم من أن يزلوا فيحرموا من نصر الله، وينزل بهم عقابه، وبعد ذلك أشار سبحانه إلى أهل الضلال، وكيف استمرأوا الغواية، وسدوا في نفوسهم طريق الهداية، وقد أقام سبحانه عليهم الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة، وفد استنكر حالهم منذرا، فقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} و قد بدا معنى لي غير المعنيين السابقين في إتيان الله سبحانه وملائكته، أن أولئك المشركين قد كفروا مع أن الحجة قاطعة، والبيانات دامغة، والحق واضح أبلج والرسول بين ظهرانيهم قد عرف طول حياته بالصدق والأمانة، وإذا كانوا قد كفروا مع تلك البينات فهل ينتظرون أن يأتيهم الله وهو وملائكته في ظلل من الغمام، لكي يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن يشاهدوا الله وملائكته، ولقد طلبوا أن ينزل ملك من السماء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

{وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} (9)] (الأنعام) فالاستفهام حينئذ للتوبيخ واللوم مع النفي، أي أن حالهم حال من لا يريدون أن يؤمنوا إلا بعد أن يعاينوا ويروا الله وملائكته جهرة، كما قال إخوان لهم سبقوهم لموسى: {أرنا الله جهرة...153} (النساء)،

ومعنى {و قضي الأمر} أي انتهى الأمر عند هذه المعجزة التي جاء بها محمد، {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...29} (الكهف).

{و إلى الله ترجع الأمور} إليه سبحانه وحده لا إلى أحد سواه، ولا إلى أحد معه، تصير الأمور خيرها وشرها، وسيجزي كلا بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وقوله: {هل ينظرون} مأخوذة من النظر. والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق. وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يسمى نظرا. ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في أي مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟ إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يطلق النظر على الانتظار، وهو طلب إدراك ما يتوقع...

و {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله}، يعني هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها. وساعة نسمع قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} نقول: ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟...

{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} يعني بما لم يكن في حسبانهم. هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس كورت، والنجوم انكدرت، وكل شيء في الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم. فماذا ينتظرون؟.

إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم وينهى أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث. كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر في أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجيء الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده.

و {في ظلل من الغمام}. فيه شيء يظلك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذي يظلك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظلك إلا أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد. وكلمة {ظلل} معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله} (من الآية 32 سورة لقمان). أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل عليه برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجئ بشيء لم يكن في حسابه. وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضي الأمر.

وعندما تسمع {قضي الأمر} فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح: {وقضى الأمر واستوت على الجوديّ} (من الآية 44 سورة هود). أي انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه.

فالله يقول: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة.

{وإلى الله ترجع الأمور}، ومرة تأتي {وإلى الله ترجع الأمور}. وفيه فرق بين {تَرجع الأمور} بفتح التاء وبين {تُرجع الأمور} بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره، أما غير الراغب والذي كان لا يرجو لقاء ربه فسيُرجع بالرغم عنه، تأتي قوة أخرى تُرجعه، فمن لم يجئ رغباً يأتي رهبا.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ويمكن أن يكون المعنى إشارة إلى انتهاء مأموريّة التبليغ وبيان الحقائق الواردة في الآية السابقة بعنوان (بيّنات)، وبهذا يكون انتظار وتوقع هؤلاء بلا معنى، فعلى فرض المحال إمكانيّة حضور الله تعالى والملائكة أمامهم فلا حاجة إلى ذلك كما ذكرنا، لأنّ مستلزمات الهداية قد وُضعت أمامهم بالقدر الكافي.