التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

وبعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول في السلم كافة ، ونهاهم عن الزلل عن طريقه المستقيم ، عقب ذلك بتهديد الذين امتنعوا عن الدخول في السلم فقال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ . . . } .

ينظرون : أي ينتظرون . يقال : نظرته وانتظرته بمعنى واحد .

وظلل : جمع ظلة . كظلم جمع ظلمة - وهي ما أظلك من شعاع الشمس وغيره .

والغمام : اسم جنس جمعي لغمامة ، وهي السحاب الرقيق الأبيض ، سمى بذلك لأنه يغم ، أي يستر . ولا يكون الغمام ظلة إلا حيث يكون متراكباً والاستفهام للإِنكار والتوبيخ .

والمعنى : ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإِسلم من بعد ما جاءتهم البينات ، إلا أن يأتهيم الله يوم القيامة في ظل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم ، وتأتيهم ملائكته الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو - سبحانه - .

وإتيان الله - تعالى - إنما هو بالمعنى اللائق به - سبحانه - مع تنزيه عن مشابهة الحوادث ، وتفويض علم كيفية إليه - تعالى - . وهذا هو رأي علماء السلف .

وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } معناه على هذا الرأي : أتم - سبحانه - أمر العباد وحسابهم فأثيب الطاتع وعوقب العاصي ، ولم تعد لدى العصاة فرصة للتوبة أو تدارك ما فاتهم ، وقد ارتضى هذا الرأي عدد من المفسرين منهم ابن كثير فقد قال في معنى الآية : يقول الله - تعالى - مهدداً للكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } يعني : يوم القيامة نفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزي كل عامل بعمله : إن خيراً فخير وإن شراً فشر ! ! ولهذا قال - تعالى - { وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } .

أما علماء الخلف فيؤولون إتيان الله بما يتناسب مع ذاته - سبحانه - ، ولذا فسروا إتيانه بأمره أو بأسه في الدنيا .

وقد عبر صاحب الكشاف عن وجهة نظر هؤلاء بقوله : " إتيان الله : إتيان أمره وبأسه كقوله { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } { جَآءَهُمْ بَأْسُنَا } ويجوز أن يكون المأتى به محذوفاً ، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله - قبل ذلك - " فإن الله عزيز حكيم " فإن قلت : لم يأتيهم العذاب في الغمام ؟ قلت : لأن الغمام مظنته الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ؛ لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء في الحديث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ؛ ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث : { وَقُضِيَ الأمر } أي : تم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه .

وقال الجمل ما ملخصه : وقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } استئناف مفرغ من مقدر ، أي ليس لهم شيء ينتظرونه إلا إتيان العذاب وهذا مبالغة في توبيخهم وقوله : { والملائكة } بالرفع عطفا على اسم الجلالة أي ، وتأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره - تعالى - ، بل هم الآتون ببأٍه على الحقيقة . وقرأ الحسن وأبو جعفر : والملائكة بالجر عطفا على ظلل ، أي إلا أن يأتيهم فثي ظلل وفي الملائكة . وقوله { وَقُضِيَ الأمر } فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفاً على يأتيهم داخلا في حيز الانتظار ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل والأصل ويقضي الأمر ؛ وإنما جيء به كذلك لأنه محقق كقوله : { أتى أَمْرُ الله } والثاني : أن يكون جملة مستأنفة برأسها أخبر الله - تعالى - بأنه قد فرغ من أمرهم فهو من عطف الجمل وليس داخلا في حزي الانتظار .

ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بقوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي إليه وحده - سبحانه - لا إلى غيره ولا إلى أحد معه تصير الأمور خيرها وشرها وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا وسيجازي الذين أحسنوا بالحسنى .

فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد قضاء أمره ، ونفذا حكمه ، وتمام قدرته .