" هَلْ " لفظه استفهامٌ والمراد به النفي ؛ كقوله : [ الطويل ]
وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ{[3171]}
أي : ما ينظرون ، وما أنا ، ولذلك وقع بعدها " إلاَّ " كما تقع بعد " ما " . و " هَلْ " تأتي على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى " مَا " كهذه الآية ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ }
الثاني : بمعنى " قَدْ " كقوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، وقوله : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ } [ ص : 21 ] و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } [ الغاشية : 1 ] ، أي : قد أتاك .
والثالث : بمعنى " أَلاَ " قال تعالى : { هَلْ أَدُلُّكُمْ } [ طه : 40 ] أي : أَلاَ أدلكم ، ومثله { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } [ الشعراء : 22 ] أي : ألا أنبئكم .
الرابع : بمعنى الاستفهام ، قال تعالى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ }
و " يَنْظُرون " هنا بمعنى ينتظرون ، وهو معدًّى بنفسه ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً *** مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ{[3172]}
وليس المراد هنا بالنظر تردد العين ؛ لأنَّ المعنى ليس عليه ؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب " إلى " ، ويضاف إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه ، وليس مضافاً إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة :22 ، 23 ] فيكون بمعنى الانتظار ، وهذا ليس بشيء ، أما قوله : إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب " إلى " فمسلم ، وقوله : " وهو هنا متعدٍّ بنفسه " ممنوعٌ ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو " إلَى " محذوفاً ؛ لأنه يطَّرد حذفه مع " أَنْ " و " أَنَّ " ، إذا لم يكن لبسٌ ، وأمَّا قوله : " يُضَافُ إلى الوَجْهِ " ، فممنوعٌ أيضاً ، إذ قد جاء مضافاً للذات ؛ قال تعالى :
{ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ }
[ الغاشية : 17 ] . والضمير في " يَنْظُرُونَ " عائدٌ على المخاطبين بقوله : " زَلَلْتُمْ " فهو التفاتٌ .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } هذا مفعول " يَنْظُرُونَ " وهو استثناءٌ مفرَّغٌ ، أي : ما ينظرون إلا إتيان الله .
والمعنى ما ينظرون ، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم .
قوله تعالى : " في ظُلَلٍ " فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بيأتيهم ، والمعنى : يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك ، أو يكون كنايةً عن الانتقام ، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : هو مفعول يأتيهم ، أي : في حال كونهم مستقرين في ظلل ، وهذا حقيقة .
والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم ، أي : أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل .
الثالث : أن تكون " في " بمعنى الباء ، وهو متعلقٌ بالإتيان ، أي : إلاَّ أن يأتيهم بظلل ؛ ومن مجيء " في " بمعنى الباء قوله : [ الطويل ]
. . . *** خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ{[3173]}
لأنَّ " خَبِيرِينَ " إنَّما يتعدَّى بالباء ؛ كقوله : [ الطويل ]
. . . فَإنَّني *** خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ{[3174]}
الرابع : أن يكون حالاً من " المَلاَئِكَةِ " مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ ، والأصل : إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز ، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم .
وقرأ أُبيّ{[3175]} وقتادة والضَّحاك : في ظلالٍ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها جمع ظلّ ؛ نحو : صلّ وصلال .
والثاني : أنها جمع ظلَّة ؛ كقلَّة وقلال ، وخلَّة وخلال ، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة .
قوله تعالى : " مِنَ الغَمَامِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ ل " ظُلَل " التقدير : ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام . و " مِنْ على هذا للتعبيض .
والثاني : أنه متعلق ب " يَأْتِيهم " ، وهي على هذا لابتداء الغاية ، أي : من ناحية الغمام .
والجمهور على رفع " المَلاَئِكَةُ " ؛ عطفاً على اسم " الله " .
وقرأ الحسن{[3176]} وأبو جعفر : بجرِّ " الملائكةِ " وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على " ظُلِلٍ " ، أي : إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ ، وفي الملائكة .
والثاني : العطف على " الغمامِ " أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه ، وعلى الحقيقة ، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته ، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب ، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة .
قوله : " وقُضِيَ الأمرُ " الجمهور على " قُضِيَ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على " يَأْتيهم " وهو داخل في حيِّز الانتظار ، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل ، والأصل : ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك ؛ لأنه محققٌّ كقوله :
{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] وقوله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي } [ المائدة : 116 ] والسبب في اختيار هذا المجاز ، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة ، وكأنها قد أتت ، أو المبالغة في تأكيد وقوعها ، كأنها قد وقعت .
والثاني : أن يكون جملة مستأنفة برأسها ، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم ، فهو من عطف الجمل ، وليس داخلاً في حيّز الانتظار .
وقرأ معاذ بن جبل{[3177]} : " وَقَضَاء الأَمْرِ " قال الزمخشريُّ : " عَلَى المصْدَرِ المرفوع ؛ عطفاً على الملائكة " . وقال غيره : بالمدِّ والخفض ؛ عطفاً على " الملائكة " .
قيل : وتكون على هذا " فِي " بمعنى " البَاءِ " أي : بظُللٍ ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر ، فيكون عن معاذ قراءتان في الملائكة ، الرفع والخفض ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : " وقُضِيَ الأمر " .
ومعنى قضي الأمر ؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة ، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ ، أو نارٍ ؛ قال تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ }
قوله : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } هذا الجار متعلق بما بعده ، وإنما قدِّم للاختصاص ، أي : لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره . وقرأ الجمهور : " تُرْجَعُ " بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث ، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا{[3178]} ببنائه للفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و " رَجَعَ " يستعمل متعدياً تارةً ، ولازماً أخرى ، وقال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ } [ التوبة : 83 ] فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي " أرجع " رباعياً ، وهي لغة ضعيفة ، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها . وقرأ خارجة{[3179]} عن نافع{[3180]} : " يُرْجَعُ " بالتذكير ، وببنائه للمفعول ؛ لأن تأنيثه مجازي ، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمَّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمَّا ذوو الأمور ؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها .
قال القفَّال - رحمه الله - : في قوله " تُرْجَعُ الأُمُورُ " بضم التاء ثلاثة معانٍ :
أحدها : ما ذكرناه ، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه .
والثاني : أنه على مذهب العرب ، من قولهم " فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه " ويقول الرجلُ لغيره : " إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ " ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به .
والثالث : أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم ، بأنهم مخلوقون محاسبون ، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله " تُرْجَعُ الأُمُورُ " أي : يردّها العباد إليه ، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كقوله
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [ الجمعة : 1 ] فإن هذا التسبيح بحسب الحال ، لا بحسب النطق ، وقوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] قيل : المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله .
" الظُّلَلُ " جمع ظُلَّةٍ ، وهو ما أظَلَّكَ الله به " والغَمَامُ " هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق ، سمِّي غماماً ؛ لأنه يغمُّ ، أي : يستر .
وقال مجاهدٌ : هو غير السحاب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم{[3181]} .
وقال مقاتلٌ : كهيئة الضَّبابة أبيض{[3182]} .
قال الحسن : في سترةٍ من الغمام{[3183]} . والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ، ويكل علمها إلى الله تعالى ؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف ، وعلماء السُّنَّة .
قال ابن عباس ، في رواية أبي صالح ، والكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر{[3184]} ، وكان مكحولٌ ، والزُّهريُّ ، والأوزاعيُّ ، ومالكٌ ، وابن المبارك ، وسفيان الثَّوريُّ ، واللَّيث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق{[3185]} يقولون فيه وفي أمثاله : أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف .
قال سفيان بن عيينة{[3186]} : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره : قراءته ، والسكوت عنه ؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله .
وروي عن ابن عبَّاسِ{[3187]} أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجهٍ :
وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط ، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله .
وقال جمهور المتكلِّمين : لا بدَّ من التَّأويل ، وفيه وجوهٌ :
أحدها : أنَّ المراد " يَأْتِيهمْ أَمْرُ اللهِ " آياتُ الله . فجعل مجيء الآيات مجيئاً له ؛ على التفخيم لشأن الآيات ؛ لأنه قال قبله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد ، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر ، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر ، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد ، ومتى أضمرنا ذلك ، زالت الشُّبهة بالكلية .
الثاني : أن يأتيهم أمر الله ، كقوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ }
[ المائدة : 33 ] والمراد : يحاربون أولياءه . وقوله : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }
[ يوسف : 82 ] والمراد : أهل القرية ، فكذا قوله : " يَأتِيهِم اللَّهُ " المراد : يأتيهم أمر الله ، كقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }
[ الفجر : 22 ] ، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم ، تقول : " ضرب الأمير فلاناً ، وصلبه ، وأعطاه " وهو إنَّما أمر بذلك ، لأنه تولَّى ذلك بنفسه ، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل : 33 ] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية ، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ ، لم يبعد حمل بعضها على البعض ، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده : " وَقُضِيَ الأَمْرُ " والألف واللام للمعهود السَّابق ، وهو الأمر الذي أضمرناه .
فإن قيل : أمر الله صفة قديمة ، فالإتيان عليها محالٌ .
وعند المعتزلة : أنه أصواتٌ ، فتكون أعراضاً ، فالإتيان عليها - أيضاً - محال .
والجواب : أن الأمر في اللغة له معنيان :
أحدهما : الفعل{[3188]} والشَّأْن والطَّريق ؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }
[ هود : 97 ] ، وفي المثل : " لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ{[3189]} " ، و " لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ " ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال ، وهذا هو التَّأويل الأول ، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا ، وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر .
وقوله : " في ظُلَلٍ " ، أي : مع ظللٍ ، والتقدير : أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد .
الثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به ؛ من السَّعادة ، والشقاوة ، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب .
الوجه الثالث : أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب ، والعذاب ، فحذف ما يأتي به ، تهويلاً عليهم ؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ ؛ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ ، كقوله تعالى : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ }
[ النحل : 26 ] وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] أو قوله : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] وآتاهم العذاب ، كالتفسير لقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ }
الوجه الرابع : أن تكون " فِي " بمعنى " البَاءِ " ، وتقديره : هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام ، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ .
الوجه الخامس : قال ابن الخطيب{[3190]} : وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف ، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } نزلت في اليهود ، فعلى هذا قوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } يكون خطاباً مع اليهود ، [ وحينئذٍ يكون قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } حكاية عن اليهود ]{[3191]} ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عليه الصلاة والسلام مثل ذلك ، فقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] .
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود ، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها ؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً ، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب ، وكانوا يقولون : إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام ، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز .
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار ، أو مبطلون ؛ فزال ذلك الإشكال .
فإن قيل : فعلى هذا التَّأويل ، كيف يتعلق قوله تعالى : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } ؟
قلنا : الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم ، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد ، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد ، فقال : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } .
قال ابن تيميَّة : وهذا من أعظم الافتراء على الله ، وعلى كتابه ؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ } أنَّ ذلك خطاباً مع اليهود ، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين ، فيقول للمؤمنين : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ، ويقول لأولئك : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } ، و { يا أَهْلَ الْكِتَابِ } ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط ؟ وهذا من أعظم تبديل للقرآن .
وأيضاً فقوله بعد ذلك : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ }
لا يقال : إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال .
وأما قوله في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } أنه من اعتقاد اليهود الفاسد ، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده ، فهذا افتراءٌ على الله ، وكذب على اليهود ، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .
وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن ، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الله تجلَّى ل " مُوسى " على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه ، فإن كان هذا حقّاً عنهم ، وكانوا ينتظرون مثل ذلك ، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى ، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك ، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً ، فهذا حقٌّ ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها ، والمطلب للشيء معتقدٌ ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } [ البقرة : 108 ] .