غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

204

قوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } الآية معنى النظر ههنا الانتظار . وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين :

الأول : وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه لا يعذر أحد بجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه يعرف من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله .

الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لابد من التأويل على سبيل التفصيل . فقيل : جعل مجيء الآيات مجيئاً له تفخيماً لها كما يقال " جاء الملك " إذا جاء جيش عظيم من جهته . وقيل : المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر

{ أو يأتي أمر ربك } [ النحل : 33 ] { فجاءهم بأسنا } وأيضاً اللام في قوله { وقُضي الأمر } تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه . لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان محال . وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضاً . فالإتيان عليها أيضاً محال لأنا نقول : الأمر قد يطلق على الفعل { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 94 ] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة . وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا . ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد ، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو أنه تعالى يخلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها . وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد ، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر . وقيل : المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله { عزيز } . وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه . وقيل : إن " في " بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة . وقيل : الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى

{ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه . وقيل : بناء على أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام ، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوماً ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون . والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً ومتراكماً . فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة ، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل . والاستفهام ههنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام ، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة ، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير ؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال : { يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوماً على الكافرين عسيراً } [ الفرقان : 25 ، 26 ] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن . { وقضي الأمر } فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به ، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة .

والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر ، فوضع الماضي موضع المستقبل . إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة " كل ما هو آت قريب " ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به وقيل : الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار . وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفاً على لفظي الله والملائكة . { وإلى الله ترجع الأمور } وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيراً من أمور خلقه ، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم " رجع أمرنا إلى الأمير " إذا كان هو يختص بالنظر فيه . فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى . ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله ، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة . فهذا معنى القراءتين في { ترجع } وأيضاً قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم " فلان معجب بنفسه " ويقول الرجل لغيره : إلى أين ذهب بك ؟ وإن لم يكن أحد يذهب به . أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه . أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكافرون فبشهادة الحال { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال } [ الرعد : 15 ] .

/خ210