قوله تعالى : { واذكروا الله } . يعني التكبيرات أدبار الصلاة وعند الجمرات يكبر مع كل حصاة وغيرها من الأوقات .
قوله تعالى : { في أيام معدودات } . الأيام المعدودات : هي أيام التشريق ، وهي أيام منى ورمي الجمار ، سميت معدودات لقلتهن كقوله : ( دراهم معدودة ) والأيام المعلومات : عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر . هذا قول أكثر أهل العلم . وروي عن ابن عباس المعلومات : يوم النحر ويومان بعده والمعدودات أيام التشريق . وعن علي قال : المعلومات ، يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، وقال عطاء عن ابن عباس : المعلومات يوم عرفة ، ويوم النحر وأيام التشريق . وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد وهي أيام التشريق ، وروى عن نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " . ومن الذكر في أيام التشريق : التكبير ، واختلفوا فيه فروي عن عمر وعبد الله بن عمر أنهما كانا يكبران بمنى تلك الأيام خلف الصلاة وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطريق . ويكبر الناس بتكبيرهما ويتأولان هذه الآية . والتكبير أدبار الصلاة مشروع في هذه الأيام في حق الحاج وغير الحاج عند عامة العلماء واختلفوا في قدره فذهب قوم إلى أنه يبتدئ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ، ويختتم بعد العصر من آخر أيام التشريق ، يروى ذلك عن عمر وعن علي رضي الله عنهما ، وبه قال مكحول ، وإليه ذهب أبو يوسف رضي الله عنه ، وذهب قوم إلى أنه يبتدئ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ، ويختتم بعد العصر من يوم النحر . يروى ذلك عن ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال قوم : يبتدئ عقيب صلاة الظهر من يوم النحر ، ويختتم بعد الصبح من آخر أيام التشريق ، يروى ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والشافعي ، في أحد قوليه . قال الشافعي : لأن الناس فيه تبع للحاج ، وذكر الحاج قبل هذا الوقت التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر ، ولفظ التكبير : كان سعيد بن جبير والحسن يقولان : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً . وهو قول أهل المدينة ، وإليه ذهب الشافعي ، وقال : وما زاد من ذكر الله فهو حسن ، وعند أهل العراق يكبر اثنتين . يروى ذلك عن ابن مسعود .
قوله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } . أراد أن من نفر من الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق فلا إثم عليه ، وذلك أن على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ورخص في ترك البيتوتة لرعاة الإبل ، وأهل سقاية الحاج ، ثم كل من رمى اليوم الثاني من أيام التشريق . وأراد أن ينفر فيدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك له واسع لقوله تعالى ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث ثم ينفر .
قوله تعالى : { ومن تأخر فلا إثم عليه } . يعني لا إثم على من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله ، ومن تأخر حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره . وقيل معناه : فمن تعجل فقد ترخص فلا إثم عليه بالترخص ، ومن تأخر فلا إثم عليه بترك الترخص . وقيل معناه رجع مغفوراً له ، لا ذنب عليه ، تعجل أو تأخر ، كما روينا " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع أي خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وهذا قول علي وابن مسعود .
قوله تعالى : { لمن اتقى } . أي لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئاً نهاه الله عنه كما قال : " من حج فلم يرفث ولم يفسق " .
قال ابن مسعود : إنما جعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله تعالى في حجه ، وفي رواية الكلبي عن ابن عباس معناه : لمن اتقى الصيد لا يحل له أن يقتل صيداً حتى تخلو أيام التشريق ، وقال أبو العالية ذهب إثمه إن اتقى فيما بقي من عمره .
قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون } . تجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .
ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله ، وإلى تقواه :
( واذكروا الله في أيام معدودات . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى . واتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه تحشرون ) . .
أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده . . قال ابن عباس : الأيام المعدودات أيام التشريق . . وقال عكرمة : ( واذكروا الله في أيام معدودات ) يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر . الله أكبر . وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي : " وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " . . وأيام عرفة والنحر والتشريق . كلها صالحة للذكر . اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين . بشرط التقوى :
ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج ؛ وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف :
( واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) . .
وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية ؛ وكيف خلعها من جذورها الجاهلية ؛ وربطها بعروة الإسلام ؛ وشدها إلى محوره ؛ وظللها بالتصورات الإسلامية ؛ ونقاها من الشوائب والرواسب . . وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة . . إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية ؛ إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد . . إنها لم تعد تقليدا عربيا ، إنما عادت عبادة إسلامية . فالإسلام ، والإسلام وحده ، هو الذي يبقى وهو الذي يرعى . .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 203 )
وأمر الله تعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات ، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر ، وهي أيام التشريق( {[1907]} ) ، وليس يوم النحر من المعدودات ، ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر وهو ثاني يوم النحر( {[1908]} ) ، فإن يوم النحر من المعلومات ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من ينفر من شاء متعجلاً يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من معدودات ، وحكى مكي والمهدوي عن ابن عباس أنه قال : «المعدودات هي أيام العشر » ، وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بعد ، والأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده لإجماعهم على أنه لا ينحر أحد في اليوم الثالث ، والذكر في المعلومات إنما هو على ما رزق الله من بهيمة الأنعام .
وقال ابن زيد : «المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق » ، وفي هذا القول بعد ، وجعل الله الأيام المعدودات أيام ذكر الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «هي أيام أكل وشرب وذكر الله »( {[1909]} ) .
ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات ، واختلف في طرفي مدة التكبير( {[1910]} ) : فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس : يكبر من صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق .
وقال ابن مسعود وأبو حنيفة : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر .
وقال يحيى بن سعيد : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر يوم التشريق .
وقال مالك : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وبه قال الشافعي .
وقال ابن شهاب : «يكبر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق » .
وقال سعيد بن جبير : «يكبر من الظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق » .
وقال الحسن بن أبي الحسن : «يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول » .
وقال أبو وائل : «يكبر من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر » .
ومشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاثة تكبيرات ، وفي المذهب رواية أنه يقال بعد التكبيرات الثلاث : لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد .
وقوله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد : المعنى من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه ، فمعنى الآية كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس( {[1911]} ) ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك ، ومن العلماء من رأى أن التعجل إنما أبيح لمن بعد قطره لا للمكي والقريب ، إلا أن يكون له عذر ، قاله مالك وغيره ، ومنهم من رأى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك ، قاله عطاء وغيره .
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم : معنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له ، واحتجوا بقوله عليه السلام :«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه » ، فقوله تعالى : { فلا إثم عليه } نفي عام وتبرئة مطلقة ، وقال مجاهد أيضاً : معنى الآية من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل ، وأسند في هذا القول أثر .
وقال أبو العالية : المعنى في الآية لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره ، والحاج مغفور له البتة .
وقال أبو صالح وغيره : معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد وما يجب عليه تجنبه في الحج ، وقال أيضاً : لمن اتقى في حجه فأتى به تاماً حتى كان مبروراً ، واللام في قوله { لمن اتقى } متعلقة إما بالغفران على بعض التأويلات ، أو بارتفاع الإثم في الحج على بعضها( {[1912]} ) ، وقيل : بالذكر الذي دل عليه قوله { واذكروا } ، أي الذكر لمن اتقى ، ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل( {[1913]} ) .
وقال ابن أبي زمنين : «يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل » .
قال ابن المواز : «يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر .
قال ابن المواز : «ويسقط رمي اليوم الثالث » .
وقرأ سالم بن عبد الله { فلا إثم عليه } بوصل الألف ، ثم أمر تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف بين يديه( {[1914]} ) .
معطوف على { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } [ البقرة : 200 ] وما بينهما اعتراض ، وإعادة فعل { اذكروا } ليبنى عليه تعليق المجرور أي قوله : { في أيام معدودات } لبعد متعلقه وهو { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } ، لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييدُه بزمانه ومكانه . فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه .
والأيام المعدودات أيام منى ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق ، لأن الناس يقددون فيها اللحم ، والتقديد تشريق ، أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس . وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات ، ولذلك قال جمهور الفقهاء الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك ، وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } في [ سورة الحج : 28 ] . فالأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة ، وهي اليوم العاشر ويومان بعده . والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر ، فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات ، واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ، واليوم الرابع من المعدودات فقط ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى : { ويذكروا اسم الله في إيام معلومات على رزقهم من بهيمة الأنعام } [ الحج : 28 ] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذَبح إجماعاً ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوماً ولا معدوداً ، وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات ، وهو رواية عن أبي حنيفة .
ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا .
وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء ، قال العرجي :
ما نَلتقِي إلاّ ثلاثَ مِنًى *** حَتَّى يُفَرِّقَ بينَنا النَّفْر
بَدَا لِيَ منها معصم حينَ جَمَّرَتْ *** وكَفٌّ خَصيبٌ زُيَّنَتْ بِبَنَان
فوالله ما أَدري وإِنْ كُنْتُ دَارياً *** بسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أمْ بِثَمَان
لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر ، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها ، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها ، وذكرُ الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار .
والأيام المعدودات الثلاثة ترمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يبتدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات ، ثم ترمى الجمرتان الأخريان كل جمرة بمثل ذلك ويكبر مع كل حصاة ، وآخرها جمرة العقبة ، وفي أحكام الرمي ووقته وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى خلافات بين الفقهاء .
والآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلاّ في منى ، ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي ، ولا يرخص في المبيت في غير منى إلاّ لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم ، ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون ، ورخص للرعاء الرمي بليل ، ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات .
وقوله : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه ، وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده .
وفِعْلاَ { تَعَجَّل } و { تأَخَّر } : مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات ، فالمراد ، من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج ، فيجوز أن تكون { صيغة } تعجل و { تأخر } معناهما مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات ، أي تعجل النفر وتأخر النفر ، ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفاً لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره .
فقوله : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه ، وإنما قوله : { ومن تأخر فلا إثم عليه } يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة ، ودُفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين ؛ فريق منهم يبيحون التعجيل ، وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين ، أو تجعل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين ، والتأخير أفضل ، ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافرُ بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل .
وعندي أن وجه ذكر { ومن تأخر فلا إثم عليه } أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم ، وقال بعد ذلك { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } خيف أن يتوهم أن التعجيل بالنفر أولى تباعداً من مواقعة ما لا يحسن من الكلام ، فدفع ذلك بقوله : { ومن تأخر فلا إثم عليه } فإذا نفي هذا التوهم علم السامع أنه قد ثبتت للمتأخر فضيلة الإقامة بتلك المنازل المباركة والمشاركة فيها بذكر الله تعالى ، ولذلك عقبه بقوله : { لمن اتقى } أي لمن اتقى الله في تأخره فلم يرفث ولم يفسق في أيام منى ، وإلاّ فالتأخر فيها لمن لم يتق إثم فهو متعلق بما تدل عليه ( لا ) من معنى النفي ، أو هو خبر مبتدأ ، أي ذلك وبدون هذا لا يظهر وجه لزيادة قوله { لمن اتقى } وإن تكلفوا في تفسيره بما لا تميل النفس إلى تقريره .
وقوله : { واتقوا الله } وصاية بالتقوى وقعت في آخر بيان مهامّ أحكام الحج ، فهي معطوفة على { واذكروا الله } أو معترضة بين { ومن تأخر } وبين { من الناس من يعجبك } [ البقرة : 204 ] الخ .
وقد استُحضر حال المخاطبين بأحكام الحج في حال حجهم ؛ لأن فاتحة هاته الآيات كانت بقوله : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } [ البقرة : 197 ] الخ ولما ختمت بقوله : { واذكروا الله في أيام معدودات } وهي آخر أيام الحج وأشير في ذلك إلى التفرق والرجوع إلى الأوطان بقوله { فمن تعجل في يومين } الخ ، عُقب ذلك بقوله تعالى : { واتقوا الله } وصية جامعة للراجعين من الحج أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغيرون ويفسدون ، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان .
وقوله : { واعلموا أنكم إليه تحشرون } تحريض على التقوى وتحذير من خلافها ؛ لأن من علم ذلك سعى لما يجلب رضا المرجوع إليه وتجنب سخطه . فالأمر في { اعلموا } للتذكير ، لأن ذلك معلوم عندهم وقد تقدم آنفاً عند قوله : { واعلموا أن الله شديد العقاب } [ البقرة : 196 ] .
والحشر : الجمع بعد التفرق فلذلك ناسب قوله : { تحشرون } حالتي تفرق الحجيج بعد انقضاء الحج واجتماع أفراد كل فريق منهم إلى بلده بعد ذلك .
واختير لفظ ( تحشرون ) هنا دون تصيرون أو ترجعون ، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج ، ولأن الناس بعد الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم ، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير ، والعرب كانوا يتفرقون رابع أيام منى فيرجعون إلى مكة لزيارة البيت لطواف الوداع ثم ينصرفون فيرجع كل فريق إلى موطنه ، قال امرؤ القيس يذكر التفرق يوم رابع النحر وهو يوم المحصب في منى :
فلله عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ *** أَشَتَّ وأَنْأَى مِنْ فِراقِ المُحَصَّب
غَداةَ غَدَوْا فَسَالِكٌ بَطْنَ نَخْلَة *** وَآخَرُ مِنهم جَازِعٌ نَجْدَ كَبْكَب
ولما قضينا من منى كل حاجـة *** ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهاري رحالُنا *** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننــا *** وسالت بأعناق المطي الأباطح
والمعنى ليكن ذكركم الله ودعاؤكم في أيام إقامتكم في منى ، وهي الأيام المعدودات الثلاثة الموالية ليوم الأضحى ، وأقيموا في منى تلك الأيام فمن دعته حاجاته إلى التعجيل بالرجوع إلى وطنه فلا إثم عليه أن يترك يومين من أيام منى وهما الثاني عشر من ذي الحجة والثالث عشر منه .