محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (203)

{ واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون 203 } .

{ واذكروا الله في أيام معدودات } هي أيام التشريق ، قاله ابن عباس رضي الله عنه .

وروى الإمام مسلم{[1169]} عن تبيشة الهذليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام / أكل وشرب وذكر الله ) . وقال عكرمة : ( معنى هذه الآية : التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر ! الله أكبر ! ) .

وروى البخاري{[1170]} عن ابن عمر : ( أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ، وفي مجلسه ، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا ) . وفي رواية : ( أنه كان يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى ) أخرجه البخاري تعليقا .

ومن الذكر في هذه الأيام التكبير مع كل حصاة الجمار كل يوم من أيام التشريق . فقد ورد في ( الصحيح ) {[1171]} : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر مع كل حصاة ) .

وقد جاء في الحديث{[1172]} الذي رواه أبو داود وغيره : ( إنما جعل الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل ) .

وروى مالك{[1173]} في ( موطأه ) عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ( أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئا . فكبّر ، فكبّر الناس بتكبيره . ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبّر ، فكبّر الناس بتكبيره . ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبّر ، فكبّر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيُعلَم أن عمر قد خرج يرمي ) .

ثم قال مالك : ( والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب ) .

/ ثم قال : الأيام المعدودات أيام التشريق .

وفي ( القاموس وشرحه ) : ( التشريق ) تقديد اللحم ، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي : تشرَّر في الشمس حكاه يعقوب . وقيل : سميت بذلك لقولهم : أشرق ثبير كيما نغير ، أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس قاله ابن الأعرابي . قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير ، ولم يذهب إليه غيره .

{ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه } أي : فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة ، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث ، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة ، فلا يأثم بهذا التعجيل . وإيضاحه : أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق . ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة . يرمي عند كل جمرة سبع حصيات . ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها ، فذلك واسع له { ومن تأخر } أي : حتى رمى في اليوم الثالث وهو النفر الثاني { فلا إثم عليه } في تأخّره ، واعلم : السنة هو التأخر . فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين بل تأخر حتى أكمل أيام التشريق الثلاثة . ولا يقال هذا اللفظ أعني { فلا إثم عليه } إنما يقال في حق المقصّر لا في حق من أتى بتمام العمل ، لأنا نقول : أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } {[1174]} ، وقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } {[1175]} ، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة / ولا عدوان . فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى . لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه قاله الواحديّ .

وقال الراغب رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة أي كناية عنها وقيل : رفع الإثم أنه حطّ ذنوبهما بإقامتهما الحج تعجّل أو تأخّر بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى ، وعلى ذلك دل حديث{[1176]} : ( من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ! ) .

وقوله تعالى : { لمن اتقى } خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر ، أو من الأحكام لمن اتقى ، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به . على حد : { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } {[1177]} وقوله : { هدى للمتقين } {[1178]} . { واتقوا الله } في مجامع أموركم { واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي للجزاء على أعمالكم ، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه ، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى . و{ الحشر } اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف .


[1169]:أخرجه مسلم في: 13 ـ كتاب الصيام، حديث 144 (طبعتنا).
[1170]:أخرجه البخاري في: 13 ـ كتاب العيدين، 12 ـ باب التكبير أيام منى.
[1171]:أخرجه البخاري في: 25 ـ كتاب الحج، 138 ـ باب يكبر مع كل حصاة، حديث 896.
[1172]:أخرجه الترمذي في: 7 ـ كتاب الحج، 64 ـ باب ما جاء كيف ترمى الجمار.
[1173]:أخرجه في الموطأ في: 20 ـ كتاب الحج، حديث205 (طبعتنا).
[1174]:[42/ الشورى/ 40] ونصها: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين 40}.
[1175]:[2/ البقرة/ 194] ونصها: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين 194}.
[1176]:أخرجه البخاري في: 27 ـ كتاب المحصَر، 9 ـ باب قول الله تعالى: {فلا رفث} حديث 815. ومسلم في: 15 ـ كتاب الحج، حديث 438 (طبعتنا).
[1177]:[30/ الروم/ 38] ونصها: {فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون 38}.
[1178]:[2/ البقرة/ 2] ونصها: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين 2}.