البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (203)

العجلة : الإِسراع في شيء والمبادرة ، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل ، كقولهم : تكبر واستكبر ، وتيقن واستيقن ، وتقضى واستقضى ، وتعجل واستعجل ، يأتي لازماً ومتعدياً ، تقول : تعجلت في الشيء وتعجلته ، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيداً ، وإمّا بمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى : عجل ، كقولهم : تلبث بمعنى لبث ، وتعجب وعجب ، وتبرّ أو برىء ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل .

الحشر : جمع القوم من كل ناحية ، والمحشر مجتمعهم ، يقال منه : حشر يحشر ، وحشرات الأرض دوابها الصغار ، وقال الراغب : الحشر : ضم المفترق وسوقه ، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه .

{ واذكروا الله في أيام معدودات } هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية ، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج ، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة ، قولان .

وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنًى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق ، وفي الطواف ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر من المعدودات ، هذا مذهب الشافعي ، وأحمد ، ومالك وأبي حنيفة ، قاله : ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدّي ، والربيع ، والضحاك .

أو يوم النحر ويومان بعده ، قاله : ابن عمر ، وعلي ، وقال : إذبح في أيها شئت ، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق ، قاله : المروزي .

أو أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قيل : وقولهم أيام العشر ، غلط من الرواة ، وقال ابن عطية : إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بُعْدٌ .

وتكلم المفسرون هنا على قوله : { في أيام معلومات ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله .

واستدل ابن عطية للقول الأول وهو : أن الأيام المعدودات : أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر منها .

بأن قال : ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر .

وهو ثاني يوم النحر ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلاً يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات انتهى كلامه .

ولا يلزم ما قاله ، لأن قوله : فمن تعجل في يومين ، لا يمكن حمله على ظاهره ، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بدّ من وقوعه في كل واحد من اليومين ، لو قلت : ضربت زيداً يومين ، فلا بدّ من وقوع الضرب به في كل واحد من اليومين ، وهنا لا يمكن ذلك ، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين ، فلا بدّ من ارتكاب مجاز ، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما ، ويصير نظير : { نسيا حوتهما } { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما الناسي أحدهما ، وكذلك ، إنما يخرجان من أحدهما .

أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف ، التقدير : فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر ، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه ، ويحتمل أن يكون المحذوف في : تمام يومين أو إكمال يومين ، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين ، بل بعدهما .

وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات ، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر ، كما ذكره ابن عطية .

وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات } الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات ، ولم يبين ما هذه الأيام ، لكن قوله : { فمن تعجل في يومين } يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها ، وهي أيام التشريق ، وقد قال في ( ريّ الظمآن ) : أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق . انتهى .

وجعل الأيام ظرفاً للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب ، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت ، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه ، ويؤيده قوله : { فمن تعجل في يومين } وأن الخطاب بقوله : واذكروا ، ظاهر أنه للحجاج ، إذ الكلام معهم ، والخطاب قبلُ لهم ، والإخبار بعدُ عنهم ، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به .

ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية .

أما وقته : فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، أو : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو حنيفة .

أو : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق ، وروي عن مالك هذا .

أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق ، قاله يحيى بن سعيد .

أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك ، والشافعي .

أو : من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن شهاب .

أو : من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله سعيد بن جبير .

أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول ، قاله الحسن .

أو : من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر ، قاله أبو وائل .

أو : من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ، قاله زيد بن ثابت ، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه .

وأما الكيفية : فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضاً رواية أنه يزيد بعدها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد .

ومذهب أبي حنيفه ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر .

ومذهب الشافعي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .

وقال أبو حنيفة : يختص التكبير بإدبار الصلوات المكتوبة في جماعة ، وقال مالك : مفرداً كان أو في جماعة عقب كل فريضة ، وبه قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ؛ وعن أحمد : القولان ، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار ، ومشاهير الصحابة ، والتابعين .

وعن أبي حنيفة : أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم ، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبَّر ، وينبغي أن يكبر عقب السلام ، والجمهور يعمل شيئاً يقطع به الصلاة من الكلام وغيره ، وقيل استدبار القبلة ، والجمهور على ذلك ، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر .

وقال مالك في ( المختصر ) : يكبر ما دام في مجلسه ، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في ( المدوّنة ) : إن نسيه وكان قريباً قعد فكبر ، أو تباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا ، وكذلك قال أبو حنيفة ، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر ، وإن قضى بعدها لم يكبر ، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقة .

والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج ، وأن هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج ، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات ، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلاَّ بدليل ، وأن الذكر في أيام منى ، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج ، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي .

{ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } الظاهر أن : تعجل ، هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله { من تأخر } فيكون مطاوعاً لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعدياً ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات .

وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل ، وظاهر قوله : فمن تعجل ، العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء .

قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول ، انتهى كلامه .

فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم .

وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلاَّ لمن بَعُدَ قطره لا للمكي ولا للقريب إلاَّ أن يكون له عذر .

وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلاَّ آل خزيمة .

فإنهم لا ينفرون إلاَّ في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، واسحاق قول عمر : إلاَّ آل خزيمة ، أي : أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .

وظاهر قوله : في يومين ، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب الشافعي ، وهو مروي عن قتادة .

وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والنخعي .

أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال : في يومين ، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحباباً .

وظاهر قوله : ومن تعجل ، سقوطه الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره .

وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل .

قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعنى : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر .

قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث .

وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل } إلى آخره .

مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق .

لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلاَّ بها إلاَّ للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال الشافعي : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي ، لا حكماً ، ولا وقتاً ، ولا عدداً ، ولا مكاناً لشهرته عندهم .

وتؤخذ أحكامه من السنة .

وقيل : في قوله : واذكروا الله ، تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه .

وقرأ سالم بن عبد الله : فلا إثم عليه ، بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيهاً بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا : مِنْ ، شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن علي ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، ومطرف بن الشخير ، وقال معاوية بن قرة : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل .

والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير ، لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله : فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوَّى بينه في الاباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء ومن تأخر فلا إثم عليه ، لأجل مقابلة : فمن تعجل فلا إثم عليه ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة .

وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه .

وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه .

وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله : فمن تعجل ، ومن تأخر ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله { وأنه هو أضحك وأبكى } وهو هنا طباق غريب ، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم .

وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله : فلا إثم عليه ، مقابلاً لقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } وتقدّمت الإشارة إلى هذا { لمن اتقى } قيل : هو متعلق بقوله : واذكروا الله ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضاً : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه .

واتقى : هنا حاصلة لِمَنْ .

وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضاً ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقياً منيباً قبل حجه ، نحو : { إنما يتقبل الله من المتقين } وحقيقته أن المصرّ على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قال قتادة ، وأبو صالح .

وقال ابن عباس : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال الماتريدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام ، وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه .

والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضاً ، إذ من لم يكن متقياً لم يرتفع الإثم عنه .

والظاهر أن مفعول اتقى المحذوف هو : الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحاً به في مصحف عبد الله .

{ واتقوا الله } لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموماً ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازات ، فيكون ذلك حاملاً لهم على اتقاء الله ، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفاً بها ، كان ذلك الأمر أمراً بالدوام ، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلاَّ الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه .

وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر : وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو : النفر ، وبدئت أولاً بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآية ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولِمَ لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي ؟

/خ212