اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (203)

قوله : " مَعْدُودَاتٍ " : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً ؛ فقال : إن قيل " الأيَّام " واحدها " يَوْم " و " المَعْدُودَات " واحدتها " مَعْدُودَةٌ " ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكَّر ، وإنما الوجه أن يقال : " أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ " فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى " مَعْدُودَاتٍ " ، على لفظ " أَيَّام " ، وقابل الجمع بالجمع مجازاً ، والأصل " مَعْدُودَة " ؛ كما قال :

{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الإيام تشتمل على السَّاعات ، والساعة مؤنَّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جواباً سديداً ، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء ؛ فإنها يجاب بها عن " كَمْ " ، و " كَمْ " إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جواباً من هذا الوجه . قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ ، وقوله " مفرد معدوداتٍ معدودةٌ بالتأنيث " ممنوعٌ ، بل مفردها " مَعْدُود " بالتذكير ، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد ؛ ألا ترى إلى قولهم : حمَّامات وسجلاَّت وسرادقات .

قال الكوفيُّون : الألف والتَّاء في " مَعْدُودَاتٍ " لأقلِّ العدد .

وقال البصريُّون : هما للقليل والكثير ؛ بدليل قوله تعالى : { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] والغرفات كثيرة .

فصل

اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرَّمي لوجهين :

أحدهما : أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى - ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه .

الثاني : لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي ؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه ؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ .

فصل

قال هنا : في أيَّام معدوداتٍ ، وفي سورة الحجِّ : { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] ، فقال أكثر أهل العلم ، الأيَّام المعلومات : عشر ذي الحجَّة ، آخرهن يوم النَّحر .

والمعدودات : هي أيَّام التَّشريق{[3102]} ؛ وهي أيَّام منى ، ورمي الجمار ، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن ؛ كقوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] ولقوله تعالى بعده : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى ؛ وهي أيَّام التَّشريق .

قال الواحديّ{[3103]} - رحمه الله - :أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر :

أولها : يوم النَّفر ؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة ، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى .

والثاني : يوم النَّفر الأول ؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى .

والثَّالث : يوم النَّفر الثَّاني : وهذه الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر ، وعند أحمد - رحمه الله - :عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق ، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار ؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات .

واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي ؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى ، " الحَجُّ عَرَفَةُ ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ ، فقد أدرك الحجَّ ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام ، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه ، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه " ، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق .

وروي عن ابن عبَّاس : " المَعْلُومَات " يوم النَّحر ويومان بعده ، و " المَعْدُودَات " أيام التَّشريق{[3104]} .

وعن علي - رضي الله عنه - قال : " المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَة بَعْدَه{[3105]} " .

وروى عطاء عن ابن عباس : " المَعْلُومات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق{[3106]} " .

وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد ، وهي أيَّام التَّشريق{[3107]} ، وروي عن نبيشة الهذلي ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير " {[3108]} .

فصل

اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات .

وروي عن عمر ، وعبد الله بن عمر ؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الصَّلوات ، وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطَّريق ، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما ، ويتلوان هذه الآية .

وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى ، [ في حق الحاجِّ وغيره .

وذهب أحمد - رحمه الله - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين ]{[3109]} . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه .

فقال مالك الشَّافعي : يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات ، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر ، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق ، وهو قول ابن عبَّاس ، وابن عمر ؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم ، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي .

وقال أحمد - رحمه الله - : يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسف ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس .

وقال أبو حنيفة : يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النَّحر ، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي .

وللشافعي قول آخر : أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر ، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق ، وله قول ثالث : أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر ؛ وهو كقول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

فإن قيل : التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق ، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة .

فالجواب : أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع .

وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - وهو قول أحمد .

وقال أهل المدينة : صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً ، وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .

قوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } " مَنْ " يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطيةٌ ، ف " تَعَجَّلَ " في محلِّ جزمٍ ، والفاء في قوله : " فَلاَ " جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب .

والثاني : أنها موصولة ب " تَعَجَّلَ " فلا محلَّ ل " تَعَجَّلَ " ؛ لوقوعه صلةً ، ولفظه ماضٍ ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً ، فهذا حكمه ؛ والفاء في " فَلاَ " زائدة في الخبر ، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ .

قال القرطبي : " مَنْ " في قوله : " فَمَنْ تَعَجَّلَ " رفع بالابتداء ، والخبر " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " ، ويجوز في غير القرآن ، فلا إثْمَ عَلَيْهِم ؛ لأن معنى " مَنْ " جماعة ؛ كقول - تبارك وتعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، وكذلك " مَنْ تأَخَّرَ " .

و " في يَوْمَيْنٍ " متعلِّق ب " تَعَجَّلَ " ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته ، تقول : " سِرْتُ يَوْمَيْنِ " لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجه المجاز : إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها ؛ كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا }

[ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، والنَّاسي أحدهما : وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمَّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام يومين أو كمالهما .

و " تَعَجَّلَ " يجوز أن يكون بمعنى " اسْتَعْجَلَ " ك " تَكَبَّرَ ، واسْتَكْبَرَ " ، أو مطاوعاً ل " عَجَّل " نحو " كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ " ، أو بمعنى المجرَّد ، وهو " عَجِلَ " ، قال الزمخشريُّ : " والمطاوعة أوفَقُ " ؛ لقوله : " ومَنْ تَأَخَّرَ " ؛ كما هي في قوله : [ البسيط ]

قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ *** وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ{[3110]}

لأجل قوله " المُتَأَنِّي " . و " تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ " يكونان لازمين ومتعدِّيين ، ومتعلِّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً ، أي : من تعجَّل النَّفر ، وأن تقدِّره مجروراً أي : بالنَّفر ، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً .

وفي هذه الآيات من علمِ البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في " تَعَجَّل وتَأَخَّرَ " ، فهو كقوله : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] و

{ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم :44 ] ، وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جعل ضدَّ " تَعَجَّلَ " : " تَأَخَّرَ " ، وإنما ضدُّ " تَعَجَّلَ " : " تَأَنَّى " ، وضدُّ " تَأَخَّرَ " : " تقدَّم " ، ولكنه في " تَعَجَّلَ " عبَّر بالملزوم عن اللازم ، وفي " تَأَخَّرَ " باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة ، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفر آتٍ بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل ، فقال في حقه أيضاً : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " ؛ ليقابل قوله أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .

وذكر ابن الخطيب{[3111]} هنا سؤالاً ؛ فقال : قوله : " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فيه إشكالٌ ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ ، فما معنى قوله : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر ، وأجاب بوجوه :

أحدها : ما تقدَّم من المقابلة ، ونقله عن الواحدي .

وثانيها : أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص{[3112]} فإنه يأثم . كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : القصر عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد - رحمه الله - : القصر والفطر في السَّفر أفضل ، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة ، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر .

وثالثها : قال بعض المفسِّرين{[3113]} : إن منهم من كان يتعجَّل ، ومنهم من كان يتأخَّر ، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين .

ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر ؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث ؛ فكأنّه قيل : أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع ؛ فلم ينفر مع النَّاس ، فلا شيء عليه .

وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام ؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّنوب والآثام ؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب : إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّ ، لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرًى واحداً ؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفِّراً لكلِّ الذُّنوب ؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان ؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام – " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ{[3114]} " ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود .

فصل

وقرأ الجمهور " فَلاَ إِثْمَ " بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ{[3115]} سالم بن عبد الله : " فَلاَ اثْمَ " بوصلها وحذف ألف لا ، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها ؛ تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألف " لاَ " وثاء " إِثْم " ، فحذفت ألف " لاَ " ؛ لالتقاء الساكنين ، وقال أبو البقاء{[3116]} - رحمه الله تعالى - : " ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب " لاَ " حَذَفَ الهمزة ؛ تشبيهاً بالألف " يعني أنه لمَّا ركِّبت " لاَ " مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ، والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء .

فصل

قال القرطبي : روى الثِّقات ؛ أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر ، وكان يؤمُّها{[3117]} ، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر ؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر .

وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ؛ أنّها قالت : " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت{[3118]} ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها " . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكاً ؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرقَ دماً .

واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس ، ورماها من اللَّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا ؟

فصل

المبيت بمنى ليالي منى{[3119]} واجبٌ ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك ؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمد ، وهو قول أكثر التَّابعين .

وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر ؛ لأن وقت الرَّمي لم يدخل .

فصل

إذا ترك الرَّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة ، بعدما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلَّها ، أو جمرة منها ، أو حصاةً من جمرة ، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ ، إلى أن يبلغ دماً ، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ .

وقال الأوزاعي : يتصدّق إن ترك حصاةً ، وقال الثَّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ ، وقال اللَّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي .

فصل

قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي ، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعاً .

قوله : " لِمَن اتَّقَى " هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلَّق من جهة المعنى بقوله : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فتقدِّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتَّقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : " وَاذْكُرُوا " أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : " غَفُورٌ رَحِيمٌ " ، أي المغفرة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر ؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي ؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منهما ، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه ؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يريبه ، وقيل : التقدير : ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [ الروم : 38 ] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ ، وقال أبو البقاء{[3120]} : " تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى " ، وكلُّها متقاربةٌ ، ويجوز أن يكون " لِمَن اتَّقَى " في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلَّق بقوله " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " أي : انتفى الإثم ؛ لأجل المتَّقي ، ومفعول : " اتَّقى " محذوف ، أي : اتَّقى الله ، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتَّقى الصَّيد .

فصل

في هذه التَّقوى وجوه :

أحدهما : قال أبو العالية{[3121]} : ذهب أئمةٌ أن " اتَّقى " فيما بقي من عمره ، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ .

وثانيها : أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّه ؛ كقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه ، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر .

وثالثها : أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ ؛ لقوله عليه السّلام : " مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ . . . " .

ورابعها : روى الكلبي عن ابن عباس : " لِمَن اتَّقَى الصَّيْد وما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ{[3122]} " .

قال ابن الخطيب{[3123]} : وهذا ضعيفٌ من وجهين :

أحدهما : أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل .

والثاني : أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام ؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلَّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام .

قوله : " واتَّقُوا الله " فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : " ِمَنِ اتَّقَى " الذي أريد به الماضي ، فلا يكون تكراراً ، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات .

وقوله : { وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .

فهو توكيد للأمر بالتَّقوى ؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار ، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى ، وأمَّا الحشر : فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه .


[3102]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/208) البيهقي في "شعب الإيمان" (3/359) رقم (3769) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/420) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد والمروزي في "العيدين" وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس.
[3103]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/164.
[3104]:- أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (1/420).
[3105]:-ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/420) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[3106]:-ينظر: تفسير البغوي 1/178.
[3107]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/209) عن مجاهد وعطاء.
[3108]:- أخرجه مسلم (3/153) وأحمد (3/460) والبيهقي (4/297) عن كعب بن مالك عن أبيه. وأخرجه مسلم (3/154) وأحمد (5/75) والبيهقي (4/298) والطحاوي (1/428) عن نبيشة الهذلي مرفوعا بلفظ: أيام التشريق أيام أكل وشرب وأخرجه النسائي (2/ 267) والدارمي (2/ 23-24) وابن ماجه (1720) والطحاوي (1/429) والطيالسي (1719) وأحمد (4/ 415 و 4/ 335) عن بشر بن سحيم وأخرجه ابن ماجه (1719) والطحاوي (1/428) وأحمد (7134- شاكر) عن أبي هريرة. قال البوصيري في "الزوائد" (1/109) إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الطحاوي (1/429) والحاكم (1/434-435) والبيهقي (4/298) وأحمد (1/93، 104) من حديث علي. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو داود (2419) والترمذي (1/148) والدارمي (2/23) والطحاوي (1/335) وابن حبان (958) وابن خزيمة (2100) والحاكم (1/434) والبيهقي (4/ 298) عن عقبة بن عامر مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وقد خرجناه موسعا في تعليقنا على بداية المجتهد لابن رشد.
[3109]:- سقط في ب.
[3110]:- البيت للقطامي. ينظر: ديوانه (2)، ومجالس ثعلب 2/ 369، شواهد الكشاف 4/ 477.
[3111]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 165.
[3112]:- الرخصة لغة: السهولة، وشرعا: الحكم المتغير من صعوبة على المكلف إلى سهولة؛ لعذر، مع قيام السبب للحكم الأصلي واجبا؛ كأكل الميتة، ومندوبا؛ كالقصر إذا بلغ السفر ثلاثة أيام، ومباحا؛ كالسلم، وخلاف الأولى؛ كفطر المسافر الذي لا يجهده الصوم، والحكم الأصلي في المذكورات: الحرمة، والسبب: الخبث في الميتة؛ ودخول وقتي الصلاة والصوم في القصر والفطر؛ والغرر في السلم، وهو قائم حال الحل؛ والعذر لإضرار، ومشقة السفر، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها وسهولة الوجوب في أكل الميتة، لموافقته لغرض النفس في بقائها، فإن لم يتغير الحكم فهو العزيمة؛ بأن لم يتغير أصلا؛ كوجوب الصلوات الخمس، أو تغير إلى صعوبة؛ كحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، أو إلى سهولة لا لعذر؛ كحلّ ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلا، لمن لم يحدث بعد حرمته؛ أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي؛ كإباحة ترك ثبات الواحد مثلا من المسلمين، للعشرة من الكفار في القتال بعد حرمته، وسبب الحرمة: قلة المسلمين، ولم تبق حال الإباحة؛ لكثرتهم حينئذ، والعذر في الإباحة مشقة الثبات المذكور، لما كثروا. واختلف الأئمة في القصر، هل هو رخصة أو عزيمة فقال "أبو حنيفة": هو عزيمة، فهو عنده من النوع الأول من أنواع العزيمة، وقال "مالك"، و"الشافعي"، و"أحمد": هو رخصة.
[3113]:-ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/166.
[3114]:- تقدم.
[3115]:- انظر: البحر المحيط 2/120، والدر المصون 1/502.
[3116]:- ينظر: الإملاء 2/88.
[3117]:- انظر: تفسير القرطبي "الجامع الأحكام القرآن" (3/6).
[3118]:- أخرجه أبو داود (1/598) كتاب المناسك: باب التعجيل من جمع (1942).
[3119]:- والقول بوجوب المبيت بـ"منى" هو الأصح من قولي الشافعي، وعليه النووي، وبه قال "مالك"، و "أحمد"، والقول الثاني: إنه سنة، وعليه "الرافعي"، وبه قال "أبو حنيفة". ويبتدئ حد "منى" من "وادي محسر"، وينتهي إلى أول العقبة. والحكمة في المبيت بمنى هي إعلان شوكة الإسلام، وإظهار عزه وعظمته؛ فإن الإسلام في حاجة شديدة إلى مثل هذا الاجتماع؛ وخصوصا في مثل هذه الظروف العصيبة التي يجتازها المسلمون في مشرق الأرض ومغربها؛ ليتمكنوا في خلال هذه الأيام من البحث في شئونهم والمعاهدات التي يعقدونها، ومعالجة أمراض الضعف التي تفشت في أممهم، وبذاك تقوى الروابط الأخوية، وتتحد صفوف المسلمين، وتفض الخصومات والمنازعات التي دبت بين أمم الإسلام، هذا ما عدا التعارف والتحابب والتآلف، وازدياد إغداق الخيرات على أهل الحجاز طول هذه المدة، وإنما كان بـ"منى" لأن العرب كانوا في الجاهلية قد اتخذوها في زمن الحج متسوقا، تروج فيه بضاعتهم؛ لحاجتهم الشديدة لذلك، ولم يجعلوا ذلك بـ"مكة"؛ لأنهم علموا أنها تضيق بمن في ذلك الموسم؛ ولأن في تخصيص بعض القبائل بـ"منى" وهو فضاء واسعة الأرجاء؛ إيغارا لصدورهم، ثم استتبع ذلك ما هو ديدنهم من التفاخر والتكاثر، فكانت كل قبيلة تظهر به ما في طاقتها من القوة والمنعة؛ ليسير ذلك بسير الركبان إلى أقاصي الأقطار، فلما جاء الإسلام ورأى الشارع الحاجة إلى مثل هذا الاجتماع لتعلم فيه قوته، وتظهر فيه شوكته، فيعلو قدره، ويسمو ذكره، لم يكن بد من جعله في ذلك المكان، وتطهيره مما كان به في الجاهلية؛ من التفاخر، والتكاثر بالأهل والعشيرة، لما ينجم عن بقائهما من الشر والتفريق الذين جاء الإسلام بخلافهما.
[3120]:- ينظر: الإملاء 1/88.
[3121]:-ينظر: تفسير البغوي 1/179.
[3122]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/423) وعزاه لسفيان بن عيينة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
[3123]:-ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 167.