قوله : " مَعْدُودَاتٍ " : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً ؛ فقال : إن قيل " الأيَّام " واحدها " يَوْم " و " المَعْدُودَات " واحدتها " مَعْدُودَةٌ " ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكَّر ، وإنما الوجه أن يقال : " أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ " فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى " مَعْدُودَاتٍ " ، على لفظ " أَيَّام " ، وقابل الجمع بالجمع مجازاً ، والأصل " مَعْدُودَة " ؛ كما قال :
{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الإيام تشتمل على السَّاعات ، والساعة مؤنَّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جواباً سديداً ، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء ؛ فإنها يجاب بها عن " كَمْ " ، و " كَمْ " إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جواباً من هذا الوجه . قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ ، وقوله " مفرد معدوداتٍ معدودةٌ بالتأنيث " ممنوعٌ ، بل مفردها " مَعْدُود " بالتذكير ، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد ؛ ألا ترى إلى قولهم : حمَّامات وسجلاَّت وسرادقات .
قال الكوفيُّون : الألف والتَّاء في " مَعْدُودَاتٍ " لأقلِّ العدد .
وقال البصريُّون : هما للقليل والكثير ؛ بدليل قوله تعالى : { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] والغرفات كثيرة .
اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرَّمي لوجهين :
أحدهما : أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى - ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه .
الثاني : لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي ؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه ؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ .
قال هنا : في أيَّام معدوداتٍ ، وفي سورة الحجِّ : { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] ، فقال أكثر أهل العلم ، الأيَّام المعلومات : عشر ذي الحجَّة ، آخرهن يوم النَّحر .
والمعدودات : هي أيَّام التَّشريق{[3102]} ؛ وهي أيَّام منى ، ورمي الجمار ، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن ؛ كقوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] ولقوله تعالى بعده : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى ؛ وهي أيَّام التَّشريق .
قال الواحديّ{[3103]} - رحمه الله - :أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر :
أولها : يوم النَّفر ؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة ، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى .
والثاني : يوم النَّفر الأول ؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى .
والثَّالث : يوم النَّفر الثَّاني : وهذه الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر ، وعند أحمد - رحمه الله - :عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق ، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار ؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات .
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي ؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى ، " الحَجُّ عَرَفَةُ ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ ، فقد أدرك الحجَّ ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام ، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه ، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه " ، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق .
وروي عن ابن عبَّاس : " المَعْلُومَات " يوم النَّحر ويومان بعده ، و " المَعْدُودَات " أيام التَّشريق{[3104]} .
وعن علي - رضي الله عنه - قال : " المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَة بَعْدَه{[3105]} " .
وروى عطاء عن ابن عباس : " المَعْلُومات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق{[3106]} " .
وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد ، وهي أيَّام التَّشريق{[3107]} ، وروي عن نبيشة الهذلي ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير " {[3108]} .
اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات .
وروي عن عمر ، وعبد الله بن عمر ؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الصَّلوات ، وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطَّريق ، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما ، ويتلوان هذه الآية .
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى ، [ في حق الحاجِّ وغيره .
وذهب أحمد - رحمه الله - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين ]{[3109]} . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه .
فقال مالك الشَّافعي : يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات ، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر ، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق ، وهو قول ابن عبَّاس ، وابن عمر ؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم ، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي .
وقال أحمد - رحمه الله - : يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسف ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس .
وقال أبو حنيفة : يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النَّحر ، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي .
وللشافعي قول آخر : أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر ، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق ، وله قول ثالث : أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر ؛ وهو كقول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
فإن قيل : التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق ، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة .
فالجواب : أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع .
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - وهو قول أحمد .
وقال أهل المدينة : صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً ، وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
قوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } " مَنْ " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةٌ ، ف " تَعَجَّلَ " في محلِّ جزمٍ ، والفاء في قوله : " فَلاَ " جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب .
والثاني : أنها موصولة ب " تَعَجَّلَ " فلا محلَّ ل " تَعَجَّلَ " ؛ لوقوعه صلةً ، ولفظه ماضٍ ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً ، فهذا حكمه ؛ والفاء في " فَلاَ " زائدة في الخبر ، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ .
قال القرطبي : " مَنْ " في قوله : " فَمَنْ تَعَجَّلَ " رفع بالابتداء ، والخبر " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " ، ويجوز في غير القرآن ، فلا إثْمَ عَلَيْهِم ؛ لأن معنى " مَنْ " جماعة ؛ كقول - تبارك وتعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، وكذلك " مَنْ تأَخَّرَ " .
و " في يَوْمَيْنٍ " متعلِّق ب " تَعَجَّلَ " ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته ، تقول : " سِرْتُ يَوْمَيْنِ " لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجه المجاز : إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها ؛ كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا }
[ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، والنَّاسي أحدهما : وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمَّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام يومين أو كمالهما .
و " تَعَجَّلَ " يجوز أن يكون بمعنى " اسْتَعْجَلَ " ك " تَكَبَّرَ ، واسْتَكْبَرَ " ، أو مطاوعاً ل " عَجَّل " نحو " كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ " ، أو بمعنى المجرَّد ، وهو " عَجِلَ " ، قال الزمخشريُّ : " والمطاوعة أوفَقُ " ؛ لقوله : " ومَنْ تَأَخَّرَ " ؛ كما هي في قوله : [ البسيط ]
قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ *** وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ{[3110]}
لأجل قوله " المُتَأَنِّي " . و " تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ " يكونان لازمين ومتعدِّيين ، ومتعلِّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً ، أي : من تعجَّل النَّفر ، وأن تقدِّره مجروراً أي : بالنَّفر ، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً .
وفي هذه الآيات من علمِ البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في " تَعَجَّل وتَأَخَّرَ " ، فهو كقوله : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] و
{ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم :44 ] ، وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جعل ضدَّ " تَعَجَّلَ " : " تَأَخَّرَ " ، وإنما ضدُّ " تَعَجَّلَ " : " تَأَنَّى " ، وضدُّ " تَأَخَّرَ " : " تقدَّم " ، ولكنه في " تَعَجَّلَ " عبَّر بالملزوم عن اللازم ، وفي " تَأَخَّرَ " باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة ، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفر آتٍ بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل ، فقال في حقه أيضاً : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " ؛ ليقابل قوله أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وذكر ابن الخطيب{[3111]} هنا سؤالاً ؛ فقال : قوله : " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فيه إشكالٌ ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ ، فما معنى قوله : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر ، وأجاب بوجوه :
أحدها : ما تقدَّم من المقابلة ، ونقله عن الواحدي .
وثانيها : أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص{[3112]} فإنه يأثم . كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : القصر عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد - رحمه الله - : القصر والفطر في السَّفر أفضل ، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة ، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر .
وثالثها : قال بعض المفسِّرين{[3113]} : إن منهم من كان يتعجَّل ، ومنهم من كان يتأخَّر ، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين .
ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر ؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث ؛ فكأنّه قيل : أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع ؛ فلم ينفر مع النَّاس ، فلا شيء عليه .
وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام ؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّنوب والآثام ؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب : إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّ ، لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرًى واحداً ؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفِّراً لكلِّ الذُّنوب ؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان ؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام – " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ{[3114]} " ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود .
وقرأ الجمهور " فَلاَ إِثْمَ " بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ{[3115]} سالم بن عبد الله : " فَلاَ اثْمَ " بوصلها وحذف ألف لا ، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها ؛ تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألف " لاَ " وثاء " إِثْم " ، فحذفت ألف " لاَ " ؛ لالتقاء الساكنين ، وقال أبو البقاء{[3116]} - رحمه الله تعالى - : " ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب " لاَ " حَذَفَ الهمزة ؛ تشبيهاً بالألف " يعني أنه لمَّا ركِّبت " لاَ " مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ، والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء .
قال القرطبي : روى الثِّقات ؛ أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر ، وكان يؤمُّها{[3117]} ، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر ؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر .
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ؛ أنّها قالت : " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت{[3118]} ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها " . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكاً ؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرقَ دماً .
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس ، ورماها من اللَّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا ؟
المبيت بمنى ليالي منى{[3119]} واجبٌ ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك ؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمد ، وهو قول أكثر التَّابعين .
وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر ؛ لأن وقت الرَّمي لم يدخل .
إذا ترك الرَّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة ، بعدما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلَّها ، أو جمرة منها ، أو حصاةً من جمرة ، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ ، إلى أن يبلغ دماً ، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ .
وقال الأوزاعي : يتصدّق إن ترك حصاةً ، وقال الثَّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ ، وقال اللَّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي .
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي ، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعاً .
قوله : " لِمَن اتَّقَى " هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلَّق من جهة المعنى بقوله : " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " فتقدِّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتَّقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : " وَاذْكُرُوا " أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : " غَفُورٌ رَحِيمٌ " ، أي المغفرة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر ؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي ؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منهما ، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه ؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يريبه ، وقيل : التقدير : ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [ الروم : 38 ] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ ، وقال أبو البقاء{[3120]} : " تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى " ، وكلُّها متقاربةٌ ، ويجوز أن يكون " لِمَن اتَّقَى " في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلَّق بقوله " فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " أي : انتفى الإثم ؛ لأجل المتَّقي ، ومفعول : " اتَّقى " محذوف ، أي : اتَّقى الله ، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتَّقى الصَّيد .
أحدهما : قال أبو العالية{[3121]} : ذهب أئمةٌ أن " اتَّقى " فيما بقي من عمره ، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ .
وثانيها : أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّه ؛ كقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه ، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر .
وثالثها : أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ ؛ لقوله عليه السّلام : " مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ . . . " .
ورابعها : روى الكلبي عن ابن عباس : " لِمَن اتَّقَى الصَّيْد وما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ{[3122]} " .
قال ابن الخطيب{[3123]} : وهذا ضعيفٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل .
والثاني : أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام ؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلَّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام .
قوله : " واتَّقُوا الله " فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : " ِمَنِ اتَّقَى " الذي أريد به الماضي ، فلا يكون تكراراً ، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات .
وقوله : { وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى ؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار ، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى ، وأمَّا الحشر : فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه .