معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

قوله تعالى : { وسارعوا } . قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو .

قوله تعالى : { إلى مغفرة من ربكم } . أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة . قال ابن عباس رضي الله عنهما إلى الإسلام ، وروى عنه إلى التوبة ، وبه قال عكرمة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أداء الفرائض ، وقال أبو العالية إلى الهجرة ، وقال الضحاك إلى الجهاد ، وقال مقاتل إلى الأعمال الصالحة . وروي عن انس بن مالك أنها التكبيرة الأولى .

قوله تعالى : { وجنة } . أي وإلى جنة .

قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } . أي عرضها كعرض السماوات والأرض ، كما قال في سورة الحديد ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) أي سعتها ، وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأكثر والأغلب أكثر من عرضه ، يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها ؟ قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير . معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم ، كقوله تعالى ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) يعني عند ظنكم ، كقوله وإلا فهما زائلتان ، وروي عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم قالوا : أرأيتم قوله ( وجنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ فقال عمر : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنها لمثلها في التوراة ، ومعناه أنه حيث يشاء الله . فإن قيل : قد قال الله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) وأراد بالذي وعدنا الجنة ، فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها السماوات والأرض ؟ قيل : إن باب الجنة في السماء وعرضها السماوات والأرض ، كما أخبر ، وسئل انس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة أفي السماء أم في الأرض ؟ فقال أي أرض وسماء تسع الجنة ؟ فقيل :فأين هي ؟ قال فوق السماوات السبع تحت العرش . قال قتادة : كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش ، وأن جهنم تحت الأرضين السبع .

قوله تعالى : { أعدت للمتقين } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

121

( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء . والكاظمين الغيظ . والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ، فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . . )

والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية . . يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال :

( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) . . ( وجنة عرضها السماوات والأرض ) . . سارعوا فهي هناك : المغفرة والجنة . . ( أعدت للمتقين ) . .

/خ179

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

قرأ نافع وابن عامر : «سارعوا » بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ، وقرأ باقي السبعة بالواو ، قال أبو علي : كلا الأمرين شائع مستقيم ، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة ، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو ، وأمال الكسائي الألف من قوله { سارعوا } ومن قوله { يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] و { ونسارع لهم في الخيرات }{[3520]} في كل ذلك ، قال أبو علي : والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها ، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة ، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره ، فبينهم في ذلك مفاعلة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات }{[3521]} وقوله { إلى مغفرة } معناه : سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها ، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها ، ويدخلكم جنة ، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير { سارعوا إلى مغفرة } ، معناه : إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام .

قال الفقيه القاضي : هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة ، وقوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } تقديره : كعرض السماوات والأرض ، وهذا كقوله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة }{[3522]} أي كخلق نفس واحدة وبعثها ، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح ، ومنه قول الشاعر : [ ذو الخرق الطهوي ] : [ الوافر ] :

حسبتُ بغامَ راحلتي عنَاقا . . . وما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالعنَاقِ{[3523]}

ومنه قول الآخر :

كأنَّ غَدِيرَهُمْ بِجَنُوبِ سَلْيٍ . . . نعَامٌ فَاقَ فيَ بَلَدٍ قِفَارٍ{[3524]}

التقدير صوت عناق وغدير نعام .

وأما معنى قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب ، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة ، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصاً ظماء »{[3525]} وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : «أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها »{[3526]} فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور ، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث النبي عليه السلام : «ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض » ){[3527]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السماوات والأرض ، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله ،

«وروى يعلى بن أبي مرة{[3528]} قال : لقيت التنوخي{[3529]} رسول هرقل{[3530]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخاً كبيراً قد فند{[3531]} فقال قدمت على النبي عليه السلام بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب هرقل : إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى { جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار ؟ » {[3532]} وروى قيس بن مسلم{[3533]} عن طارق بن شهاب{[3534]} قال : جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال أحدهما : تقولون : { جنة عرضها السماوات والأرض } ، أين تكون النار ؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل ؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار ؟ فقال اليهودي : إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ دعه إنه بكل موقن .

قال القاضي أبو محمد : فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد ، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض ، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه ، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة ، وفلاة عريضة ، وقال قوم : قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } معناه : كعرض السماوات والأرض ، كما هي طباقاً ، لا بأن تقرن كبسط الثياب ، فالجنة في السماء ، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول ، وقال قوم : الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة ، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض ، كما تقول لرجل : هذا بحر ، ولشخص كبير من الحيوان : هذا جبل ، ولم تقصد الآية تحديد العرض .

قال القاضي أبو محمد : وجلب مكي هذا القول غير ملخص ، وأدخل حجة عليه قول العرب : أرض عريضة وليس قولهم ، أرض عريضة ، مثل قوله : { عرضها السماوات والأرض } إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط ، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3535]} ، وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال : إن الجنة لم تخلق بعد ، وكذلك النار ، وهو قول ضعيف ، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا ، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله ، { أعدت للمتقين } و { أعدت للكافرين }{[3536]} وغير ذلك ، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء{[3537]} وغيره ، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت ، وأما من يقول : يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث ، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر ، و { أعدت } معناه : يسرت وانتظروا بها .


[3520]:- [ويسارعون في الخيرات] من الآية (114) من سورة آل عمران، ومن الآية (61) من سورة المؤمنون، [ونسارع لهم في الخيرات] من الآية (57) من سورة المؤمنون.
[3521]:- من الآية (148) من سورة البقرة، ومن الآية (48) من سورة المائدة.
[3522]:من الآية (28) من سورة لقمان.
[3523]:- البيت لذي الخرق الطهوي يخاطب ذئبا تبعه في طريقه. وبُغام الناقة بالضم: صوت لا تفصح به. والعناق: بالفتح الأنثى من المعز. وويب: بمعنى: ويل. "اللسان".
[3524]:- البيت نسبه في اللسان للنابغة، ونسبه ابن بري لشقيق بن جزء بن رباح الباهلي، والغدير: الحال. وسلي: اسم موضع بالأهواز كثير الثمر. والنعام: طائر من فصيلة النعاميات يقال فيه: إنه مركب من خلقة الطير وخلقة الجمل، ومؤنثة نعامة. قاق النعام: صوّت. والقفار: جمع القفر الخالي من البناء والشجر والساكن. يريد: كأن حالهم في الهزيمة حال نعام تغدو مذعورة.
[3525]:- أخرجه الطبراني-عن عبد الله بن سلام بلفظ: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما بين المصراعين في الجنة أربعون عاما، وليأتين يوم يزاحم عليه كازدحام الإبل وردت لخمس ظماء). "مجمع الزوائد. (10/ 397) والحديث متعدد الروايات والطرق. والخمص: جمع خميص من خمص إذا جاع. والظماء: جمع ظمآن من ظمئ مثقل عطش وزنا ومعنى.
[3526]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم، والبخاري، والترمذي عن أنس. (الجامع الصغير1/311).
[3527]:- أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي ذر. (فتح القدير للشوكاني 1/245).
[3528]:- هكذا ورد في جمع النسخ: وكذا في "تفسير القرطبي"، أما بقية كتب التفاسير الموجودة بأيدينا فقد ورد فيها: يعلى بن مرة بإسقاط (أبي)، ولعله الصواب، بدليل أن ابن جرير روى حديثا عن يعلى بن مرة عن التنوخي، وهو نفس السند الذي رواه به ابن عطية. وهو يعلى بن مرة الثقفي أبو المرازم من أفاضل الصحابة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنه ابناه، وراشد بن سعد، وآخرون. قال ابن سعد: أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقطع أعناب ثقيف فقطعها (الإصابة 3/669).
[3529]:- التنوخي بفتح المثناة الفوقية وضم النون المخففة وخاء معجمة نسبة إلى تنوخ، وهو اسم لعدة قبائل اجتمعوا قديما بالبحرين، وتحالفوا على التناصر، وهي إحدى القبائل الثلاث التي هي مسكن نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب والتنوخي هذا لما حضر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام فأجاب بأنه رسول قوم، وعلى دين قوم لا يرجع عنه حتى يرجع، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. (مجمع الزوائد 8/235).
[3530]:- هرقل: هو إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية، حكم من سنة: 610 إلى سنة 641، في مدته افتتح أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد كثيرا من بلاد سوريا، وهزموا جيوشا رومية عديدة، وفتحوا مصر ودمشق. (دائرة المعارف لوجدي 10/492).
[3531]:- فند، الفند: الخرف وإنكار العقل من الهرم أو المرض، وقد يستعمل في غير الكبر. (اللسان).
[3532]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن التنوخي وهو حديث صحيح، (الجامع الصغير. 2/14). كما أخرجه ابن جرير في تفسيره: 4/92 عن يعلى بن مرة عن التنوخي).
[3533]:- هو قيس بن مسلم الجدلي العدواني أبو عمر الكوفي، من قيس علان، روى عن طارق بن شهاب، والحسن بن محمد بن الحنفية، ومجاهد وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وغيرهم، وروى عنه الأعمش، وشعبة، والثوري، ومسعر، ومالك بن مغول، وآخرون، ثقة، وكان مرجئا (تهذيب التهذيب 8/403).
[3534]:- هو طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي، أبو عبد الله، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه مرسلا، وعن الخلفاء الأربعة وغيرهم، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وقيس بن مسلم وجماعة، توفي سنة 82هـ. "تهذيب التهذيب. 5/3" و"الإصابة".
[3535]:- أخرجه ابن جرير في التفسير والتاريخ، وابن إسحاق في السيرة، وذكره ابن الأثير في النهاية في مادة: عرض.
[3536]:- [أعدت للكافرين] تكررت في الآيتين (131) من سورة (آل عمران) و(24) من سورة (البقرة).
[3537]:- أخرجه مسلم في باب الإيمان 1/102 كما أخرجه غيره من المحدثين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

{ سارعوا إلى مغرفة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } .

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف .

تتنزل جملة { سارعوا . . } منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة ، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة وسارعوا بالعطف . وفي هذه الآية ما ينبأنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين .

والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا .

والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة ، وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات .

وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } .

وتنكير { مغفرة } ووصلها بقوله { من ربكم } مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم ، لقصد الدلالة على التعظيم ، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :

ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عريض

وذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوق الآن ، وأنها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنة لن تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله إن جبريل وميكال قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : وعامي أدخل منزلي ، قالا : إنه بقي لك لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك .

{ أعدت للمتقين }

وأعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :

مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها *** أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ

وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة .

وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه ، هي ليست جماع التَّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع ، والهوَى المتَّبع .