الآية 133 وقوله تعالى : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فتكثروا أموالكم ، وحقيقة { وسارعوا إلى } ما فيه وعد المغفرة من ربكم بالإجابة له إلى ما دعا والقيام به بحق الوفاء ، { واتقوا الله } في استحلال الربا لأن من استحل محرما فقد كفر . وحقيقته اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار .
وأصل الطاعة الائتمار بأمر المطاع في كل أمر ، فمن أطاع الله في ما أمر وأطاع رسوله ، رحمه ربه ، وفي الطاعة رحمه الخلق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لن تدخلوا الجنة ما لم تراحموا ، قالوا : كلنا نرحم يا رسول الله ، قال : ليس رحمة الرجل ولده ، ولكنه رحمة عامة ) [ بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/187 وعزاه للطبراني ] .
وقوله : وأطيعوا الله } في تحريم الربا ، { والرسول } في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه /67- ب/ { لعلكم ترحمون } أنتم ، وتنجون من النار ومن عذاب الله ، ثم قال : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } أي بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه .
والمغفرة هي فعل الله ، لكنه والله أعلم كأنه قال بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم والمغفرة هي الستر في اللغة ثم يحتمل أن يكون لا يهتك أستاركم في الآخرة إذ أتيتم ويحتمل أن ينسيكم{[4352]} سيئاتكم في الجنة لأن ذكر المساوئ في الجنة تنغص عليهم{[4353]} نعمه فأخبر صلى الله عليه وسلم : أنه ينسيهم مساوئهم في الجنة لئلا ينغص ذلك عليهم والله أعلم .
وقوله تعالى : { وجنة عرضها السماوات والأرض } وبادروا أيضا بالتوبة عن استحلال الربا إلى { وجنة عرضها السماوات والأرض } فمعنى { وعرضها } ضرب الجنة كضرب {[4354]} السماوات والأرض وذلك والله أعلم ( ما ذكر أن ) {[4355]} للسماوات والأرض أحوالا وليست{[4356]} تلك الأحوال كغيرها من الخلائق بقوله صلى الله عليه وسلم : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } وذلك أنها عندهم من أشد الخلائق وأقواها ، فقال : إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشد وأقوى وأصلب لقادر على إنشاء ما هو دونه ، وهو هاذ العالم الصغير ووصف أيضا السماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة بقوله : { سبعا شدادا } ( النبأ 12 ) غلاظا{[4357]} . ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أنها مع غلظها وكثافتها تكاد تنشق لعظيم ما قالوا : بأن لله ولدا وشريكا بقوله : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } { أن دعوا للرحمن ولدا } ( مريم 90-91 ) ليعلموا عظم القول وقبحه لئلا يقولوا في الله ما لا يليق به ، ووصف أيضا السماوات والأرض بالدوام على وقت يبعد فناءها في أوهام الخلق ، وإن ( كانت فانية ) {[4358]} بقوله صلى الله عليه وسلم : { خالدين فيها مادامت السماوات والأرض } ( هود 108-109 ) فإذا كان السماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق وليست تلك الأحوال كغيرها من الخلائق من شدتها وقوتها وصلابتها ، وسعتها شبه عرض الجنة ، وأهل النار بالدوام فيها كدوام السماوات والأرض ، وإن كانا فانيين{[4359]} غير دائمين أبدا لبعد فنائهما عن أوهام الخلق ، فعلى ذلك الأول والله اعلم .
وفيه دلالة أن الجنة ذات{[4360]} نهاية المكان والعرض وإن لم يكن بذي الوقت وغايته ، لأنه ذكر العرض لها ، فهو{[4361]} عرض يحتمل نهاية عرضه ، والله أعلم . ولو لم يكن ذا{[4362]} نهاية من حيث العرض كان{[4363]} الله غير موصوف بالقدرة على الزيادة ومن زال عنه وصف ذلك انقطع عنه الطمع ، واضمحل الرجاء .
وبعد فإن ثم دارا{[4364]} أخرى سوى الجنة فأوجب ذلك نهاية الجنة من حيث العرض{[4365]} ، إذ كان غير الجنة دار أخرى مثلها في ارتفاع نهاية الوقت . وجائز وجود أمرين مختلفين على اتفاق في الوقت ومحال وجودهما في مكان واحد على{[4366]} اتفاق بمكان لذلك لزمت{[4367]} نهايتهما وإن زالت نهاية الوقت .
وقوله تعالى : { أعدت للمتقين } ، والاتقاء هو من الطاعة في كل أمره ونهيه وترك مخالفته في ذلك كله ثم سبب التقوى يكون بوجوه ثلاثة :
( أحدهما ){[4368]} : بذكر عظمته وجلاله ورفعته ( فيمنعه ){[4369]} عن مخالفة أمره ونهيه فيذلِّله ذلك ، ويحقره فيمنعه عن مخالفته .
والثاني{[4370]} : بذكر نعمته وإحسانه فيمنعه ذلك من ارتكاب ما نهي عنه حياء منه{[4371]} .
والثالث : بذكر نقمته وعذابه في مخالفة أمره ونهيه فينفي ذلك عذاب الله ونقمته .
قال الشيخ ، رحمه الله وقوله صلى الله عليه سلم : { أعدت للمتقين } ثم فسر الذين يتقون إلى آخر ذلك ، فهو يحتمل وجهين :
أحدهما أن يكون المراد من { أعدت } من جميع الذي ذكر .
والثاني : أن يريد ب { أعدت للمتقين } الذين اتقوا الشرك{[4372]} بالذي أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }( الأنفال 38 ) ثم وصفهم بالذي ذكرهم من الأفعال المحمودة ( لا أن ذلك بكليته ) {[4373]} شرط لأن تعد الجنة حتى يحرم من لم يبلغ ذلك .
فإن كان على الأول فكأنه وصف النهاية ( لمن أعدت لهم ) {[4374]} الجنة وقد يجوز أن يكون لهم أتباع في الشرك{[4375]} فإن لم يبلغوا تلك الريبة بفضل الله أو بما أعطى من ذكر منهم من الشفاعة أو بما شاركوا أولئك في أصل الاعتقاد بقبول ذلك ، وإن كان منهم تقصير على أنه يذكر في كل أمر من الأمور العظيمة والنهاية في تلك على مشاركة من دونهم{[4376]} لهم في ذلك . وعلى ذلك ما ذكر من بعث الرسل إلى الفراعنة على دخول من دونهم في ذلك وعلى من طبه{[4377]} أهل الجلال في ذلك ودخول من دونهم في الحق وكذلك ذكر الخطاب في أهل الرفعة والعلو على تضمن من دون ذلك ، فكذلك الأول وكذلك الله سبحانه ذكر في القرآن من الكفرة الذين جمعوا مع الكفر العناد{[4378]} والتمرد وذكر أهل الإيمان لهم مع ذلك الخيرات منا منه أن ذكر هؤلاء بأعلى ما استحقوا من الثناء ، والأول بأعلى ما به يصير لمقته من غير تخصيص في أصل له الوعد الوعيد إلا من حيث التشديد والتفضيل فمثله الأول . أيد ذلك قسمته أهل الجنة قسمين : التابعين وأصحاب اليمين{[4379]} ثم قال في الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا{[4380]} وقد بين في آخر ذلك ما يدل على ذلك ، وهو من ذكر من الذين يأتون الفواحش والظلم ، ثم لم يصروا على ما فعلوا{[4381]} ويكون في ذلك وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى بمنه يوفقه بما يرضيه في آخر أمره ليختمه به فإذا كان في وقت ارتكابه ما ارتكب وتقصيره في ما قصر معتقدا جلال ربه خائفا نقمته{[4382]} راجيا رحمته متعرضا لما عرفه من الكرم{[4383]} والعفو ، فيكون هو شريك من ذكر في الخاتمة ، وإن كان منه تخلف عنه في الابتداء والله أعلم أو يكون{[4384]} يجزيه لما قصر وفرط حتى يطهره مما كان من الخلط ، فيرجع إلى ما وافق الأول في جملة الاعتقاد فتكون ( الجنة ) {[4385]} معدة لمن جمع{[4386]} ذلك ، والجمع يكون للذي ذكر ، أو بالعفو والجود{[4387]} ( إذ جعل الجزاء : طريقه الجود ) {[4388]} والكرم لا الاستحقاق والله أعلم .
وإن كان على المعنى الثاني فالآية تخرج مخرج الترغيب في جميع تلك الأوصاف وتكون الجنة في الإطلاق معدة للمتقين الذين اتقوا الشرك{[4389]} ، والدرجات وما فيها من الفضائل والمراتب على قدر ما يتقى من أنواع الخلاف في الأفعال ، ويتوسل إلى الله تعالى بالمبادرة والمسارعة إلى ما فيه الرغائب . وعلى ذلك أمر الوعد تفضيل للدرجات في الجنة وتعريف الدركات في النار على ما أعدت النار في الجملة للكفرة ، ويتفاوت أهلها بتفاوت الأفعال من الخلاف والتمرد ، والله الموفق .
ثم السبب الذي به يستعان على التقوى ( في وجوه ) {[4390]} ثلاثة :
أحدهما : أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته في كل أحواله ، فيتقي مخالفته بالهيبة والجلال .
والثاني : أن يذكر عظم منته عليه ونعمه وأياديه التي فيها يتقلب وبها فيتقيه حياء منه .
والثالث : أن يذكر نفسه عظم نقمته الموعودة وعذابه المعد{[4391]} لأهل الخلاف له ، فيتقيه إشفاقا على نفسه ، والله الموفق .
وجملة ذلك أن من تأمل ما إليه مرجعه والذي منه مبدؤه مع ما فيه متقلبه من أول أحواله إلى منتهى آجاله حتى صير ذلك كله كالعيان لقلبه سهل عليه وجه التقوى لما عند ذلك من تذهب شهواته وتضمحل أمانيه والله الموفق .