الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

قوله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض }[ آل عمران :133 ]

قرأ نافعٌ ، وابنُ عامِرٍ : ( سارعوا ) بغَيْر واوٍ ، وكذلك هي في مصاحِفِ أهل المدينة والشام ، وقرأ باقي السبعة بالواو ، والمُسَارَعَة : المبادرةُ ، وهي مفاعلة ، إذ الناس كأن كلَّ واحِدٍ يُسْرِعُ لِيَصِلَ قبل غيره ، فَبَيْنَهُمْ في ذلك مُفَاعَلَةٌ ، أَلاَ ترى إلى قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } [ البقرة : 148 ] ، والمعنى : سارعوا بالطَّاعة ، والتقوى ، والتقرُّب إلى ربِّكم ، إلى حالٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فيها ، قلْتُ : وحقٌّ على مَنْ فَهِمَ كلامَ ربِّه ، أنْ يبادر ويُسَارع إلى ما ندبه إلَيْه ربُّه ، وأن لاَّ يتهاوَنَ بترك الفضائِلِ الواردَةِ في الشَّرّع ، قال النوويُّ رحمه الله : اعلم أنه ينبغِي لِمَنْ بلغه شيْءٌ في فضائلِ الأعمال ، أنْ يعمل به ، ولو مَرَّةً ، ليكون مِنْ أهله ، ولا ينبغي أنْ يتركه جملةً ، بل يأتي بما تيسَّر منه ، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفَقِ على صِحَّته : ( وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فافعلوا مِنْهُ مَا استطعتم ) اه من «الحِلْيَة » .

وقوله سبحانه : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض }[ آل عمران :133 ] أي : كعرض السموات والأرض ، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية : تقرن السمواتُ والأرَضَُ بعضها إلى بعض ، كما تبسطُ الثيابُ ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة ، ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه ، وفي الحديثِ الصحيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً ) وفي الصحيح : ( إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ المُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ) فهذا كلُّه يقوِّي قولَ ابْنِ عَبَّاسِ ، وهو قولُ الجُمْهور : " أنَّ الجنَّة أَكْبرُ من هذه المخلوقاتِ المذْكُورة ، وهي ممتدَّة على السَّماء ، حيْثُ شاء اللَّه تعالى ، وذلك لا يُنْكَرُ ، فإن في حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، وَمَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ) .

قال ( ع ) : فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه .

قلتُ : قال الفَخْر : وفي الآية وجْه ثانٍ ، أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ ، لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له ، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا . اه .

وقُدْرَةُ اللَّه تعالى أوسع ، وفَضْلُه أعظم ، وفي «صحيح مسلم » ، والترمذيِّ ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة ( رضي اللَّه عنه ) : " في سُؤَال موسى رَبَّهُ عَنْ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، وَأَنَّهُ ( رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : أترضى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : رَضِيتُ ، أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ ذَلِكَ ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ : رَضِيتُ ، أيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ ذَلِكَ ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ ، أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : فَإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشتهت نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ " قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .

وفي البخاريِّ من طريقِ ابْنِ مسعودٍ ( رَضِيَ اللَّه عَنه ) : " إنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّة ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً ، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ : ادخل الجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : رَبِّ ، الجَنَّةُ ملأى ، فَيَقُولُ لَهُ : إنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ " اه .

وفي «جامع التِّرمذيِّ » ، عن ابنِ عُمَرَ ( رضي اللَّه عنهما ) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ) الحديثَ ، قال أبو عيسى : وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنّ غير وَجْهٍ ، مرفوعًا وموقوفًا ، وفي الصَّحيحِ ما معناه : ( إذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، تبقى فِيهَا فَضْلَةٌ ، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً ) ، أَوْ كما قاله ، اه .

قال ( ع ) : وخص العرض بالذِّكْر ، لأنه يدلُّ متى ما ذُكِرَ علَى الطُّولِ ، والطُّولُ إذا ذكر لا يدُلُّ على قَدْر العَرْض ، بل قد يكونُ الطَّويلُ يَسِيرَ العَرْضِ ، كالخَيْطِ ونحوه .