الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " وسارعوا " قرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام . وقرأ باقي السبعة " وسارعوا " . وقال أبو علي : كلا الأمرين شائع{[3475]} مستقيم ، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة ، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو . والمسارعة المبادرة ، وهي مفاعلة . وفي الآية حذف . أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة . قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير " سارعوا إلى مغفرة من ربكم " : معناه إلى تكبيرة الإحرام . وقال علي بن أبي طالب : إلى أداء الفرائض . عثمان بن عفان : إلى الإخلاص . الكلبي : إلى التوبة من الربا . وقيل : إلى الثبات في القتال . وقيل غير هذا . والآية عامة في الجميع ، ومعناها معنى " فاستبقوا الخيرات " [ البقرة : 148 ] وقد تقدم{[3476]} .

الثانية : قوله تعالى : " وجنة عرضها السموات والأرض " تقديره كعرض فحذف المضاف ؛ كقوله : " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " {[3477]} [ لقمان : 28 ] أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها . قال الشاعر :

حَسِبْتُ بُغَامَ راحلتي عَنَاقاً *** وما هي وَيْبَ غيرك بالعَنَاقِ{[3478]}

يريد صوت عناق . نظيره في سورة الحديد " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " {[3479]} [ الحديد : 21 ] . واختلف العلماء في تأويله ، فقال ابن عباس : تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله . وهذا قول الجمهور ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة{[3480]} ألقيت في فلاة من الأرض ) . فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض ، وقدرة الله أعظم من ذلك كله . وقال الكلبي : الجنان أربعة : جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم ، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض . وقال إسماعيل السدي : لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا ، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض . وفي الصحيح : ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى : لك ذلك وعشرة أمثاله ) رواه أبو سعيد الخدري ، خرجه مسلم وغيره . وقال يعلى بن أبي مرة : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره ، قال : فقلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ) . وبمثل هذه الحجة استدل الفاروق على اليهود حين قالوا له : أرأيت قولكم " وجنة عرضها السموات والأرض " فأين النار ؟ فقالوا له : لقد نزعت بما{[3481]} في التوراة .

ونبه تعالى بالعرض على الطول ؛ لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض . قال الزهري : إنما وصف عرضها ، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا كقوله تعالى : " متكئين على فرش بطائنها من إستبرق " {[3482]} [ الرحمن : 54 ] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة ، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأتقن من البطائن . وتقول العرب : بلاد عريضة ، وفلاة عريضة ، أي واسعة ، قال الشاعر :

كأن بلادَ الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوبِ كِفَّةُ حَابِلِ{[3483]}

وقال قوم : الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة ، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض ، كما تقول للرجل : هذا بحر ، ولشخص كبير من الحيوان : هذا جبل . ولم تقصد الآية تحديد العرض ، ولكن{[3484]} أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه . وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة : لقوله " أعدت للمتقين " وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما . وقالت المعتزلة : إنهما غير مخلوقتين في وقتنا ، وإن الله تعالى إذا طوى السموات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء ؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء ؛ لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة . وقال ابن فورك : الجنة يزاد فيها يوم القيامة . قال ابن عطية : وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال : إن الجنة لم تخلق بعد . قال ابن عطية : وقول ابن فورك " يزاد فيها " إشارة إلى موجود ، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة .

قلت : صدق ابن عطية رضي الله عنه فيما قال : وإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، فالجنة الآن على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السموات والأرض ؛ إذ العرش سقفها ، حسب ما ورد في صحيح مسلم . ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد . وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته{[3485]} ، ولا غاية لسعة مملكته ، سبحانه وتعالى .


[3475]:- في هـ: سائغ.
[3476]:- راجع جـ2 ص 165.
[3477]:- راجع جـ14 ص 78.
[3478]:- بغام الناقة: صوت لا تفصح به. والعناق (بالفتح): الأنثى من المعز. وويب، بمعنى ويل. والبيت لذي الخرق الطهوي يخاطب ذئبا تبعه في طريقه. (عن اللسان).
[3479]:- راجع جـ17 ص 254.
[3480]:- في هـ: من حديد.
[3481]:- نزعت بما في التوراة. جئت بما يشبهها.
[3482]:- راجع ج 17 ص 179.
[3483]:- الكفة (بالكسر): ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق.
[3484]:- في د وهـ: ولكنه يراد.
[3485]:- في د وب وهـ: لمقدوراته.