قوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } ، هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه ، أعانوه أو لم يعينوه ، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد ، { إذ أخرجه الذين كفروا } ، من مكة حين مكروا به وأرادوا تبييته وهموا بقتله .
قوله تعالى : { ثاني اثنين } أي هو أحد الاثنين ، والاثنان : أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { إذ هما في الغار } ، وهو نقب في جبل ثور بمكة ، { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } قال الشعبي : عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه . أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، ثنا أحمد بن عبد الله الدورقي ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال : أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض " . قال الحسين بن الفضل : من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن . وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ، لا يكون كافرا . وقوله عز وجل : { لا تحزن إن الله معنا } لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه ، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة . وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر ؟ قال : أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار ، فدخل فاستبرأه ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر ، أنا خيثمة بن سليمان ، ثنا أبو قلابة الرقاشي ، ثنا حيان بن هلال ، ثنا همام بن يحي ، ثنا ثابت البناني ، ثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم ، قال : نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا ، فلما ابتلي المسلمون . خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض ، فأعبد ربي ، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج . إنك تكسب المعدم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، إرجع ، واعبد ربك ببلدك فرجع ، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال : أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدم . ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة : وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل فيها ، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر أن يبني مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن فيقتصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه ، وينظرون إليه . وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم ، فقالوا : فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا ، وأبناءنا ، فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، إن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرين بذلك لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة رضي الله عنها فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه ، فأما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له ، فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضي بجوار الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين : إني رأيت دار هجرتكم ، ذات نخل ، بين لابتين وهما الحرتان . فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين -كانتا عنده- ورق السمر ، وهو الخبط ، أربعة أشهر " .
قال ابن شهاب . قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : " فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن ، فأذن له ، فدخل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله : بالثمن قالت عائشة رضي الله عنها : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاقين ، قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة ، كبائت فيها ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر ، منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا ، - والخريت : الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل " .
قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المديحي ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم : أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج ، أقبل رجل منهم ، حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه ، قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت له : إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة ، فتحبسها علي ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت ، فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي ، فخررت عنها فقمت ، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره ، فركبت فرسي وعصيت الأزلام ، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت ، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان ، فوقفوا ، فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلام ، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر ، لسهيل وسهل ، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته : هذا إن شاء الله المنزل . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، ثم بناه مسجدا ، وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن :
هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسم لي . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات . قال الزهري : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب ، والعنكبوت حتى نسجت بيتا ، وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أعم أبصارهم عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون : لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت قوله عز وجل : { فأنزل الله سكينته عليه } ، قيل : على النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : على أبي بكر رضي الله عنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ، { وأيده بجنود لم تروها } ، وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته . وقيل : ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا . وقال مجاهد و الكلبي : أعانه بالملائكة يوم بدر ، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } ، وكلمتهم الشرك ، وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وكلمة الله هي العليا } ، إلى يوم القيامة . قال ابن عباس : هي قول لا إله إلا الله . وقيل كلمة الذين كفروا : ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : وعد الله أنه ناصره . وقرأ يعقوب : { وكلمة الله } بنصب التاء على أنها معطوفة على المفعول الأول لجعل ، وهو كلمة الذين كفروا ، والتقدير : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا ، فكلمة الله معطوفة على المفعول الأول ، والعليا معطوفة على المفعول الثاني ، وقرأ الباقون : وكلمة الله بالرفع على الاستئناف ، كأنه تم الكلام عند قوله { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } ثم ابتدأ فقال { وكلمة الله العليا } على الابتداء والخبر ، فكلمة الله مبتدأ ، والعليا خبره . قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } .
ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :
( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .
وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله { فقد } وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد ، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة » ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار ، فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً{[5655]} في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار«راءة » أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل .
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء{[5656]} الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله { ثاني اثنين } معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين » بنصب الياء من «ثاني » .
قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين » بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .
قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا{[5657]} وكقوله جرير : [ البسيط ]
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ*** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف{[5658]}
و «صاحبه » أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : { إلا تنصروه } .
قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : { إن الله معنا } يريد به النصر والإنجاء واللطف{[5659]} ، وقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في { عليه } عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة » عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم{[5660]} ، كقوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم }{[5661]} ويحتمل أن يكون قوله { فأنزل الله سكينته } إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود » الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود » ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما » ، وقرأ مجاهد «وأأيده » بألفين ، والجمهور «وأيّده » بشد الياء ، وقوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، { وكلمة الله هي العليا } قيل : يريد لا إله الا الله ، وقيل :الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ » بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ » بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا » .
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }
استئناف بياني لقوله : { ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير } [ التوبة : 39 ] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرّاً بالله ورسولِه ، يثير في نفس السامع سؤالاً عن حصول النصر بدون نصير ، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه ، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم ، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئاً .
والضمير المنصوب ب { تنصروه } عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأنّه واضح من المقام .
وجملة { فقد نصره الله } جواب للشرط ، جعلت جواباً له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف : فإنّ مضمون { فقد نصره الله } قد حصل في الماضي فلا يكون جواباً للشرط الموضوع للمستقبل ، فالتقدير : إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه . وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله : { فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } الآية .
ويتعلّق { إذ أخرجه } ب { نَصَره } أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه ، أي من مكة ، والمراد خروجه مهاجراً . وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] ، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين ، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة ، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين ، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج ، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم ، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلاً ، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم .
كتب في المصاحف { إلاَّ } من قوله : { إلا تنصروه } بهمزة بعدها لام ألف ، على كيفية النطق بها مدغمةً ، والقياس أن تكتب ( إنْ لا ) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان : ( إنْ ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة ، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها ، ومثل ذلك كتب { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض } في سورة الأنفال ( 73 ) . وهم كتبوا قوله : { بل ران } في سورة المطففين ( 14 ) بلام بعد الباء وراء بعدها ، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها .
وقد أثار رسم { إلا تنصروه } بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ { إلاّ } هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في « مغني اللبيب » : « تنبيه ليس من أقسام ( إلاّ ) ، ( إلاّ ) التي في نحو { إلا تنصروه فقد نصره الله } وإنّما هذه كلمتان ( إن ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في « شرح التسهيل » من أقسام إلاّ ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على « المغني » ولا الشمني .
وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب « الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب » « وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي « التسهيل » أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال » . وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على « المغني » « ليس ما في « شرح التسهيل » نصّاً في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج ب ( إلاّ ) وقال « واحترزتُ عن ( إلا ) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية ، أي فلا إخراج فيها » . وقلت عبارة متن « التسهيل » « المستثنى هو المخرج تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها » ، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على « تسهيله » ، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله : « إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها « إنْ لا » نقله صاحب « لسان العرب » . وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه .
و { ثانيَ اثنين } حال من ضمير النصب في { أخرجه } ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى { مِن } ، أي ثانياً مِن اثنين ، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر : بتواتر الخبر ، وإجماع المسلمين كلّهم . ولكون الثاني معلوماً للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره ، وأيضاً لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد .
و { إذْ } التي في قوله : { إذ هما في الغار } بدل من { إذ } التي في قوله : { إذ أخرجه } فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج ، باعتبار الخروج ، والكونُ في الغار .
والتعريف في الغار للعهد ، لغار يعلمه المخاطبون ، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة ، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها ، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال ، في طريق جبليّ .
والغار الثقب في التراب أو الصخر .
و { إذْ } المضافة إلى جملة { يقول } بدل من { إذ } المضافة إلى جملة { هما في الغار } بدل اشتمال .
والصاحب هو { ثاني اثنين } وهو أبو بكر الصديق . ومعنى الصاحب : المتّصف بالصحبة ، وهي المعية في غالب الأحوال ، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة ، كما تقدّم في قوله تعالى : { ولم تكن له صاحبة } في سورة الأنعام ( 101 ) . وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور ، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون ، فيصيبوه بمضرّة ، أو يرجعوه إلى مكة .
والمعية هنا : معية الإعانة والعناية ، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون : { قال لا تخافا إنني معكما } [ طه : 46 ] وقوله { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] .
{ فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار ، وأنّها من النصر ، إذ هي نصر نفساني ، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً . وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله : { لا تحزن إن الله معنا } بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه ، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه ، فيكون تقدير الكلام : فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا ، وحِين كان في الغار ، وحين قال لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل { نصره } على الترتيب المتقدّم ، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع ، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به ، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة .
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية ، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله : { فأنزل الله سكينته عليه } إلى أبي بكر ، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في { أيّده } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر ، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر ، مع أنّ المقام لذكر ثباتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه ، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام ، وتلك الحيرة نشأت عن جعل { فأنزل الله } مفرّعاً على { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } وألجأهم إلى تأويل قوله : { وأيده بجنود لم تروها } إنّها جنود الملائكة يوم بدر ، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل ، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً .
والسكينة : اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة ، مشتقّة من السكون ، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } في سورة البقرة ( 248 ) .
والتأييد : التقوية والنصر ، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى { وأيدناه بروح القدس } في سورة البقرة ( 87 ) .
والجنود : جمع جند بمعنى الجيش ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } في سورة البقرة ( 249 ) ، وتقدّم آنفاً في هذه السورة .
ثم جوز أن تكون جملة { وأيده بجنود } معطوفة على جملة { فأنزل الله سكينته عليه } عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة ، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه ، ومدينة أنصاره ، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة .
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة { أخرجه والتقدير : وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة ، ويوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، كما مر في قوله : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها } [ التوبة : 26 ] .
( والكلمة ) أصلها اللفظة من الكلام ، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه ، قال تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] ( أي أبقى التبرىء من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم ) وقال { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } [ البقرة : 124 ] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده ، واختتانه ، وقال لمريم { إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] أي بأمر عجيب ، أو بولد عجيب ، وقال { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } [ الأنعام : 115 ] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم : لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين ، أي بين أمرهم واتّفاقهم ، وجَمع الله كلمة المسلمين ، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر .
ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة ، وعكسه قوله : { وكلمة الله هي العليا } فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين ، وأشعر قوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء ، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل .
وجملة { وكلمة الله هي العليا } مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه . فضمير الفصل مفيد للقصر ، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا ، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا ، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة ، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها ، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى .
ومعنى جعلها كذلك : أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله .
وقرأ يعقوب ، وحده { وكلمةَ الله } بنصب ( كلمة ) عطفاً على { كلمة الذين كفروا السفلى } فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره .
وجملة { والله عزيز حكيم } تذييل لمضمون الجملتين : لأنّ العزيز لا يغلبه شيء ، والحكيم لا يفوته مقصد ، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى .