اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

قوله : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } عليه ، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين :

أحدهما : ما تقدَّم . والثاني : قال " إنه أوجب له النُّصْرَة ، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده " . قال أبُو حيَّان : " وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط ؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق ، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول " . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لَمْ يُعينُوه ، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ .

وقوله : { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمُّوا بقتله .

قوله " ثَانِيَ اثنين " منصوبٌ على الحالِ من مفعول " أخْرَجهُ " وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .

وقرأت{[17816]} جماعة " ثَانِي اثنَيْنِ " بسكون الياء . قال أبُو الفَتْحِ : " حكاها أبو عمرو " .

ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق .

قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } " إذ " بدل من " إذ " الأولى ، والعامل فيها ( فقد نصره ) . وقال أبو البقاء{[17817]} : " من منع أن يكون العامل في البدل هو العامل في المبدل منه ، قدّر عاملا آخر ، أي : نصره إذ هما في الغار " . و " الغارُ " بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة ، ويجمع على " غِيران " ، ومثله : " تاج وتِيجَان " ، و " قاعٌ وقيعان " ، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ . وألف " الغَارِ " عن واو .

قوله : " إِذْ يَقُولُ " بدل ثان من " إذْ " الأولى . وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار ، و " إذْ يَقُول " ظرفان ل " ثَانِي اثنَيْنِ " .

فصل

عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ " {[17818]} . قال الحسينُ بن الفضل " من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر ؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً " {[17819]} .

فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ } [ الكهف : 37 ] .

فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : " أكفرتَ " ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأيّ مناسبة بين البابين ؟ .

روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا بكر ؟ فقال : أذكر الطلب ؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ فقال بأبي أنت وأمِّي ، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام " لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا " فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول " نعم " فجعل يمسح الدموع عن خدِّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه ، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ ، وإن قتلت هلكت الأمة " .

وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً .

فصل

دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :

أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه ، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة ، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره .

وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين .

وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلَّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم .

ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام – حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه كان ثاني محمد –عليه الصلاة والسلام- في أكثر المناصب الدينية ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو - رضي الله عنه - " ثَانِي اثْنَيْن " في الدَّعوة إلى الله تعالى ، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان " ثَانِيَ اثنين " في المواقف كلِّها ، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه ، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان " ثَانِيَ اثنين " في مجلسه ، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " ولمَّا مات دفن بجنبه ، فكان " ثاني اثنين " هناك .

وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] الآية . ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافر ، فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى ؟ .

والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد ؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد ، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم .

قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } فالضمير في " عَلَيْه " يعودُ على أبي بكر ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً ، وقد تقدَّم القولُ في السكينة . والضميرُ في " أيَّدهُ " للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر ، وهو معطوف على قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . وقرأ{[17820]} مجاهد " وأيَدَه " بالتَّخفيف . و " لَمْ تَرَوْهَا " صفة ل " جُنُود " .

قوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } إلى يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاسٍ " هي قول : لا إله إلاَّ الله " {[17821]} .

وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره .

والجمهور على رفع " كَلِمة " على الابتداء ، و " هي " يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً ، و " العُليا " خبرها ، والجملة خبر الأوَّل . ويجز أن تكن " هي " فصلاً " ، و " العُليا " الخبر . وقرأ يعقوب{[17822]} " وكلمةَ اللهِ " بالنَّصب ، نسقاً على مفعولي " جعل " أي : وجعل كلمة الله هي العليا .

قال أبُو البقاء{[17823]} : وهو ضعيفٌ ، لثلاثة أوجه :

أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته .

الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى ، فصارت عليا ، وليس كذلك .

الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك ب " هي " بعيد ، إذ القياسُ أن يكون " إياها " .

قال شهابُ الدِّين{[17824]} : أما الأولُ فلا ضعف فيه ؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً .

وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر ، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة .

وأمَّا الثالثُ ف " هِيَ " ليست تأكيداً ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكونُ تأكيداً ، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر ؟ .

ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قاهر غالب " حَكِيمٌ " لا يفعل إلاَّ الصَّواب .


[17816]:ينظر: الكشاف 2/272، المحرر الوجيز 3/35، البحر المحيط 5/45، الدر المصون 3/465.
[17817]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/15.
[17818]:أخرجه الترمذي (5/572) كتاب المناقب: باب في مناقب أبي بكر وعمر حديث (3670) والطبراني (11/400) والبغوي في شرح السنة (7/181) من طريق كثير النواء عن جميع بن عمير عن ابن عمر وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/433) وعزاه إلى ابن شاهين والدارقطني وابن مردويه وابن عساكر.
[17819]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/293).
[17820]:ينظر: المحرر الوجيز 3/36، البحر المحيط 5/746 الدر المصون 3/466.
[17821]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/376) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/439) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[17822]:وقرأ بها أيضا الحسن بن أبي الحسن. قال الأعمش: ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبي بن كعب: "وجعل كلمته هي العليا". ينظر: الكشاف 2/272، المحرر الوجيز 3/36، البحر المحيط 5/46، الدر المصون 3/466.
[17823]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/15.
[17824]:ينظر: الدر المصون 3/446.