قوله : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } عليه ، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم . والثاني : قال " إنه أوجب له النُّصْرَة ، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده " . قال أبُو حيَّان : " وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط ؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق ، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول " . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لَمْ يُعينُوه ، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ .
وقوله : { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمُّوا بقتله .
قوله " ثَانِيَ اثنين " منصوبٌ على الحالِ من مفعول " أخْرَجهُ " وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقرأت{[17816]} جماعة " ثَانِي اثنَيْنِ " بسكون الياء . قال أبُو الفَتْحِ : " حكاها أبو عمرو " .
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق .
قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } " إذ " بدل من " إذ " الأولى ، والعامل فيها ( فقد نصره ) . وقال أبو البقاء{[17817]} : " من منع أن يكون العامل في البدل هو العامل في المبدل منه ، قدّر عاملا آخر ، أي : نصره إذ هما في الغار " . و " الغارُ " بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة ، ويجمع على " غِيران " ، ومثله : " تاج وتِيجَان " ، و " قاعٌ وقيعان " ، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ . وألف " الغَارِ " عن واو .
قوله : " إِذْ يَقُولُ " بدل ثان من " إذْ " الأولى . وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار ، و " إذْ يَقُول " ظرفان ل " ثَانِي اثنَيْنِ " .
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ " {[17818]} . قال الحسينُ بن الفضل " من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر ؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً " {[17819]} .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ } [ الكهف : 37 ] .
فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : " أكفرتَ " ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأيّ مناسبة بين البابين ؟ .
روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا بكر ؟ فقال : أذكر الطلب ؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ فقال بأبي أنت وأمِّي ، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام " لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا " فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول " نعم " فجعل يمسح الدموع عن خدِّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه ، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ ، وإن قتلت هلكت الأمة " .
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً .
دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه ، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة ، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره .
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين .
وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلَّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم .
ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام – حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه كان ثاني محمد –عليه الصلاة والسلام- في أكثر المناصب الدينية ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو - رضي الله عنه - " ثَانِي اثْنَيْن " في الدَّعوة إلى الله تعالى ، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان " ثَانِيَ اثنين " في المواقف كلِّها ، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه ، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان " ثَانِيَ اثنين " في مجلسه ، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " ولمَّا مات دفن بجنبه ، فكان " ثاني اثنين " هناك .
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] الآية . ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافر ، فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى ؟ .
والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد ؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد ، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم .
قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } فالضمير في " عَلَيْه " يعودُ على أبي بكر ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً ، وقد تقدَّم القولُ في السكينة . والضميرُ في " أيَّدهُ " للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر ، وهو معطوف على قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . وقرأ{[17820]} مجاهد " وأيَدَه " بالتَّخفيف . و " لَمْ تَرَوْهَا " صفة ل " جُنُود " .
قوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } إلى يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاسٍ " هي قول : لا إله إلاَّ الله " {[17821]} .
وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره .
والجمهور على رفع " كَلِمة " على الابتداء ، و " هي " يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً ، و " العُليا " خبرها ، والجملة خبر الأوَّل . ويجز أن تكن " هي " فصلاً " ، و " العُليا " الخبر . وقرأ يعقوب{[17822]} " وكلمةَ اللهِ " بالنَّصب ، نسقاً على مفعولي " جعل " أي : وجعل كلمة الله هي العليا .
قال أبُو البقاء{[17823]} : وهو ضعيفٌ ، لثلاثة أوجه :
أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته .
الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى ، فصارت عليا ، وليس كذلك .
الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك ب " هي " بعيد ، إذ القياسُ أن يكون " إياها " .
قال شهابُ الدِّين{[17824]} : أما الأولُ فلا ضعف فيه ؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً .
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر ، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة .
وأمَّا الثالثُ ف " هِيَ " ليست تأكيداً ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكونُ تأكيداً ، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر ؟ .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قاهر غالب " حَكِيمٌ " لا يفعل إلاَّ الصَّواب .