ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة ، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إليهم{[36306]} ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة{[36307]} القادر له - فيما مضى من الهجرة التي ذكرها ، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما وعدوه واستدفاع{[36308]} ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله{[36309]} بقوله { فما متاع {[36310]}الحياة الدنيا{[36311]} } الآية وقوله { إلا تنفروا } - الآية ، فقال : { إلا تنصروه } أي أنتم طاعة لأمر الله ، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم إما على طريق الاستخدام من{[36312]} سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه ، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله { إذا قيل لكم } أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم ، وإظهاراً في قوله تعالى
هو الذي أرسل رسوله }[ التوبة : 34 ] الآية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق{[36313]} التي بعدها ولا تنفك{[36314]} عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره ، وذكر{[36315]} الغار والصاحب أوضح الأمر . وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل ، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة ، و{[36316]} بأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً ، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر ؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب : هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم ؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء .
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى ، وكان بعضهم قد توانى في ذلك ، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر ، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط : { فقد } أي إن لم يتجدد {[36317]}منكم له{[36318]} نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد { نصره الله } أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة ، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي{[36319]} { إذ } أي حين { أخرجه الذين } وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال : { كفروا } أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا{[36320]} في قتله أو إخراجه أو إثباته ، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه { ثاني اثنين } أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله { إذ هما في الغار } أي غار ثور الذي في أعلى{[36321]} الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب ، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم { إذ يقول } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم { لصاحبه }{[36322]} أي{[36323]} أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء { لا تحزن } والحزن : هم غليظ بتوجع يرق له القلب ، حزنه وأحزنه بمعنى ؛ وقال في القاموس : أو أحزنه : جعله حزيناً ، وحزّنه : جعل فيه حزناً ؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك{[36324]} بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب { إن الله } أي الذي له الأمر كله{[36325]} { معنا } أي بالعون والنصرة{[36326]} ، وهو كاف لكل مهم ، قوي على دفع كل ملم ، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان{[36327]} كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أجر ، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان{[36328]} بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان ، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم ، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم ، وفي هذه الآية من التنويه{[36329]} بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه ؛ قال أبو حيان{[36330]} وغيره : قال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف{[36331]} الإلهية ، راسخ القدم في ذلك المقام{[36332]} لذلك لم يتلعثم{[36333]} من أول الأمر في عناد جميع العباد بخلع الأنداد ، ثم تدرب فيه مترقياً ثلاث{[36334]} عشرة سنة ، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من{[36335]} أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين ، ولم يكن جبنباً ولا سوء ظن ، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكور{[36336]} بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم ، ويتصاغر في جنبها كل كبير ، {[36337]}ولذلك{[36338]} ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم ، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة{[36339]} له . وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم{[36340]} بها مما كانوا فيه ، ومنع موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه ، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات : هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم أم لا ؟ فلذلك قدم إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به ، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكور{[36341]} به فقال{ كلا إن معي ربي }{[36342]}[ الشعراء : 62 ] فكأن قيل : ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا ؟ فقال " سيهدين "
أي{[36343]} إلى ما أفعل{[36344]} ، يعرف ذلك{[36345]} من كان متضلعاً{[36346]} بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف{[36347]} عن التوراة ، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليفتديه{[36348]} بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما ، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قتلت أنا فأنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة ، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظهار الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك ، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر ، وكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الناس ، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله : { فأنزل الله } أي الملك الأعظم { سكينته } أي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك { عليه } أي الصديق - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عطف على نصره الله قوله : { وأيده } أي النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه { بجنود لم تروها } أي من الملائكة الكرام { وجعل كلمة } أي دعوة { الذين كفروا } أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره { السفلى } فخيّب سعيهم ورد كيدهم ، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من{[36349]} الأوقات فقال : { وكلمة الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق { هي العليا } أي وحدها ، لايكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً ، فالله قادر على ذلك { {[36350]}والله{[36351]} } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { عزيز } أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره { حكيم* } لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها .