بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

قوله تعالى :

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } ، يعني : إن لم تنصروه وتخرجوا معه إلى غزوة تبوك ، فالله ينصره كما نصره . { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : كفار مكة من مكة . { ثَانِيَ اثنين } ، يعني : كان واحداً من اثنين ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ولم يكن معهما غيرهما ، فنصرهما الله تعالى . { إِذْ هُمَا فِي الغار } ؛ وذلك حين أراد أهل مكة قتله ، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فلم يجده ، فجلس إلى أن جاء أبو بكر ، فقبَّل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما لك ، بأبي أنت وأمي . قال : « مَا أَرَى قُرَيْشاً إِلاَّ قَاتِلِيَّ » . فقال أبو بكر : دمي دون دمك ونفسي دون نفسك ، لا يصنع بك شيء ، حتى يبدأ بي . فقال : « اخْلُ بِي » . قال أبو بكر : ليس بك عين ؛ إنَّما هما ابنتاي أسماء وعائشة . قال : « قَدْ أُذِنَ لِي بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّة » . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن عندي بعيرين حبستهما للخروج ، فخذ أحدهما واركبه . قال : « لاَ آخُذُهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ » فأخذه بالثمن . وهي ناقته القصوى . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب بأن يبيت مكانه ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ، حتى أتيا جبل ثور ، جبل بأسفل مكة .

قال الفقيه : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، عن عبد الرحمن بن إبراهيم الرازي قال : حدثنا الفرات ، عن ميمون بن مهران ، عن عتبة بن محصن ، عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال : والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر . فقيل : وأي ليلة هي ؟ قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة ليلاً ، فتبعه أبو بكر ، فجعل أبو بكر يمشي مرّة أمامه ومرة خلفه ومرةٌ عن يمينه ومرةٌ عن يساره ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا هذا يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ » قال : يا رسول الله ، أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون خلفك . ومرة عن يمينك وعن يسارك ، لا آمن عليك . قال : فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه ، حتى حفيت ؛ فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت ، حمله على عاتقه وجعل يشتد به ، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال : والذي بعثك بالحق ، لا تدخله حتى أدخله أنا ، فإن كان من شيء نزل بي قبلك .

فدخل فلم ير شيئاً فحمله وأدخله .

وقال في رواية محمد بن إسحاق : كان الغار معروفاً بالهوام فجعل أبو بكر يسد الجحور ، حتى بقي جحران فوضع عقبيه عليهما حتى أصبح . وقال في رواية عمر : وكان في الغار خرق فيه حيات ، فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه ؛ وجعلت الدموع تنحدر على خده من شدة الألم ما يجده ؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَحْزَنْ » فذلك قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } يعني : الطمأنينة لأبي بكر ، فهذه ليلته .

قال الفقيه : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا أبو بكر القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا عمرو بن عليّ قال : حدثنا عون بن عمرو القيس ، عن مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك ، يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار ، أمر الله تعالى شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن الله تعالى بعث العنكبوت ، فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر الله حمامتين وحشيتين ، فأقبلتا تزقان ، حتى وقفتا بين العنكبوت وبين الشجرة ، فأقبلت فتيان قريش من كل بطن ، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم ، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على ق نظروا ، فإذا حمامتان وحشيتان بفم الغار ، فرجعوا وقالوا : رأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفنا أنه ليس فيه أحد . فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله درأ بهما عنه ؛ فشمت عليهما ، يعني : أنه بارك عليهما ، فأحرزهما الله تعالى في الحرم فأفرختا فيه كما هما إلى الآن .

وفي خبر آخر زيادة وقد كان أبو بكر أمر عامر بن فهيرة أن يرعى له غنمه بثور ، فكان يريح إليهما غنمه ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكة ، فكانا فيه ثلاث ليال ، وكانا يريحان الغنم ويجليان كل ليلة ما أرادا ؛ فلما هدؤوا من الالتماس وجاءهم عبد الله بن أبي بكر ، فأخبرهم بذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة ، واستأجر رجلاً من بني الدئل يهديهم الطريق ، يقال له عبد الله بن أريقط ، أخذ بهم أسفل مكة حتى خرجوا قريباً من جدة . ثم عارضوا الطريق قريباً من عسفان ، ففطن سراقة بن مالك آثارهم فلبس لأمته ، وركب فرسه حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت قوائم فرسه فقال : يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي ؛ فإني أرى الحي قد التمسوني .

فإن أكن وراءك خير لك فأرد عنك من ورائي من الناس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقاً فَأَطْلِقْ فَرَسَهُ » فانطلق فرسه . فقال : يا محمد خذ سهماً من كنانتي ، فمر به على إبلي فإن أردت لبوناً فخذ ، وإن أردت حمولة فخذ .

فرجع سراقة فوجد الناس يلتمسون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : ارجعوا فقد استبرأت لكم ما هاهنا ، وقد عرفتم من بصيرتي بالآثار . قال : فرجعوا عنه ؛ فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر المدينة ؛ فذلك قوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِى الغار } . قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } ؛ وإنما كان يخاف أبو بكر على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذهاب التوحيد والإسلام ، لا على نفسه { إِنَّ الله مَعَنَا } في الدفع عنا . { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ، يعني : طمأنينته { عليه } . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يعني على أبي بكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه ؛ وقال حبيب بن أبي ثابت : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ، يعني : على أبي بكر ؛ وقال في رواية الكلبي : فأنزل الله سكينته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سكن واطمأن .

قال : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا أحمد بن محمد الحاكم القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا أبو سوار ، عن أبي العطوف ، عن الزهري قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : « هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئَاً ؟ » قال : نعم . قال : « فَقُلْ حَتَّى أَسْمَعَ » فقال :

وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ المُنِيفِ وَقَد . . . طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إذْ يَصْعَدُ الْجَبَلا

وَكَانَ حِبَّ رَسُول الله قَدْ عَلِمُوا . . . مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلا

قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى بدت نواجذه وقال : « صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ ، هُوَ كَمَا قُلْتَ » . ثم قال تعالى : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } ، يعني : قوم بدر والأحزاب وحنين { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } ، يعني : الشرك بالله تعالى . { وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا } ، يعني : شهادة أن لا إله إلا الله . قرأ الأعمش ويعقوب الخضرمي { وَكَلِمَةُ الله } بالنصب ، يعني : وجعل كلمة الله ؛ وقراءة العامة { وَكَلِمَةُ الله } بالضم على معنى الاستئنافِ { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } حكم بإظهار التوحيد وإطفاء دعوة المشركين .