البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } : ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو غيره .

وجواب الشرط محذوف تفسيره : فسينصره ، ويدل عليه فقد نصره الله أي : ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يكون قوله تعالى : فقد نصره الله جواباً للشرط ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : فسينصره ، وذكر معنى ما قدمناه .

والثاني : أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى .

وهذا لا يظهر منه جواب الشرط ، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي لا يترتب على المستقبل ، فالذي يظهر الوجه الأول .

ومعنى إخراج الذين كفروا إياه : فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .

ونسب الإخراج إليهم مجازاً ، كما نسب في قوله : { التي أخرجتك } وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير .

وانتصب ثاني اثنين على الحال أي : أحد اثنين وهما : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه .

وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام : « من يخرج معي ؟ » قال : أبو بكر .

وقال الليث : ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر .

وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : ألا تنصروه .

قال ابن عطية : بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام .

وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله ، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره ، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر .

وقرأت فرقة : ثاني اثنين بسكون ياء ثاني .

قال ابن جني : حكاها أبو عمرو ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .

والغار : نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث فيه ثلاثاً .

هذ هما : بدل .

وإذ يقول : بدل ثان .

وقال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى ، وليس ذلك لسائر الصاحبة .

وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ، وأخبره بقوله : إن الله معنا ، يعني : بالمعونة والنصر .

وقال أبو بكر : يا رسول الله إنْ قتلتُ فأنا رجل واحد ، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ » وقال أبو بكر رضي الله عنه :

قال النبي ولم يجزع يوقرني *** ونحن في سدف من ظلمة الغار

لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا *** وقد تكفل لي منه بإظهار

وإنما كيد من تخشى بوارده***

كيد الشياطين قد كادت لكفار

والله مهلكهم طراً بما صنعوا *** وجاعل المنتهى منهم إلى النار

{ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } قال ابن عباس : السكينة الرحمة .

وقال قتادة في آخرين : الوقار .

وقال ابن قتيبة : الطمأنينة .

وهذه الأقوال متقاربة .

والضمير في عليه عائد على صاحبه ، قاله حبيب بن أبي ثابت ، أو على الرسول قاله الجمهور ، أو عليهما .

وأفرده لتلازمهما ، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة : فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما .

والجنود : الملائكة يوم بدر ، والأحزاب ، وحنين .

وقيل : ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه ، ويصرفون وجوه الكفار عنه .

والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابت الجأش ، ولذلك قال : لا تحزن إن الله معنا .

وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء :

{ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه } يعني الرسول ، وتسبحوه : يعني الله تعالى .

وقال ابن عطية : والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم ، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله : { فيه سكينة من ربكم } ويحتمل أن يكون قوله : فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح ، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار .

وكلمة الذين كفروا هي الشرك ، وهي مقهورة .

وكلمة الله : هي التوحيد ، وهي ظاهرة .

هذا قول الأكثرين .

وعن ابن عباس : كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : أنه ناصره .

وقيل : كلمة الله لا إله إلا الله ، وكلمة الكفار قولهم في الحرب : يا لبني فلان ، ويا لفلان .

وقيل : كلمة الله قوله تعالى : { لأغلبن أنا ورسلي } وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب : أعل هبل ، يعنون صنمهم الأكبر .

وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء .

وقرىء : وكلمة الله بالنصب أي : وجعل .

وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار .

وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ : وجعل كلمته هي العلياء ، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة ، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه ، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر .