قوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . . . }
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد : { إلا تنصروه } ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره ، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا حبان ، حدثنا همام ، حدثنا ثابت ، حدثنا أنس قال : حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، فرأيت آثار المشركين ، قلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا ، قال : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
[ الصحيح 8/176 – 177 ك التفسير – سورة التوبة ، ب [ الآية ] ح 4663 ] ، وصحيح مسلم 4/1854 ك فضائل الصحابة – ب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ] .
قال مسلم : حدثني سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب يقول : جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب : ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي . فقال لي أبي : احمله . فحملته . وخرج أبي معه ينتقد ثمنه ، فقال له أبي : يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم . أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ، ثم بسطت عليه فروة ، ثم قلت : نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك . فنام . وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة ، يريد منها الذي أردنا ، فلقيته فقلت : لمن أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من أهل المدينة . قلت : أفي غنمك لبن ؟ قال : نعم . قلت : أفتحلب لي ؟ قال : نعم . فأخذ شاة ، فقلت له : انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى " قال فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض " فحلب لي ، في قعب معه ، كثبة من لبن ، قال : ومعي إداوة أرتوى فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكرهت أن أوقظه من نومه ، فوافقته استيقظ ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله ، فقلت : يا رسول الله اشرب من هذا اللبن ، قال : فشرب حتى رضيت ، ثم قال : ( ألم يأن للرحيل ؟ ) قلت : بلى . قال فارتحلنا بعد مازالت الشمس . واتبعنا سراقة بن مالك . قال : ونحن في جلد من الأرض . فقلت : يا رسول الله أتينا . فقال : ( لا تحزن إن الله معنا ) . فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتطمت فرسه إلى بطنها . أرى فقال : إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي . فادعوا لي ، فا الله لكما أن أرد عنكما الطلب . فدعا الله ، فنجى . فرجع لا يلقى أحدا إلا قال : قد كفيتكم ما ههنا . فلا يلقى أحدا إلا رده . قال : ووفي لنا .
[ الصحيح 4/2309 ح 2009 – ك الزهد والرقائق ، ب في حديث الهجرة . . . ] ، وأخرجه البخاري في [ الصحيح ح 3615 – المناقب ، علامات النبوة ] .
وانظر حديث البخاري تحت الآية رقم 39 من سورة الأنفال .
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار : بكرة وعشية ، فلما ابتلي المسلمون ، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة – وهو سيد القارة – فقال أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي ، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار . ارجع واعبد ربك ببلدك . فرجع ، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة ، وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل فيها وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا . فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره . ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم ، فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره ، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فانهه ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان ، قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له . فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله عز وجل . والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين : ( إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ) . وهما الحرتان . فهاجر من هاجر قبل المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( على رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي ) . فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : ( نعم ) . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر – وهو الخبط – أربعة أِشهر . قال ابن شهاب : قال عروة : قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا – في ساعة لم يكن يأتينا فيها – فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر . قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن ، فأذن له ، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( أخرج من عندك ) . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أذن لي في الخروج . فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) . قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالثمن . قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاق . قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فكمنا فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل – وهو لبن منحتهما ورضيفهما – حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث . واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا – والخريت : الماهر بالهداية – قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش ، فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل ، فأخذ بهم طريق السواحل .
[ الصحيح 7/271 – 273 ح 3905 – ك مناقب الأنصار ، ب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ] .
قال البخاري : حدثني محمد ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز ابن صهيب ، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف ، قال : فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل ، قال فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق ، وإنما يعني سبيل الخير .
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم ، فقال : يا رسول الله ، هذا فارس قد لحق بنا ، فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( اللهم اصرعه ) فصرعه الفرس ، ثم قامت تحمحم ، فقال : يا نبي الله مرني بما شئت . قال : فقف مكانك ، لا تتركن أحدا يلحق بنا . قال : فكان أول النهار جاهدا على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكان آخر النهار مسلحة له . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة ، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فسلموا عليهما وقالوا : اركبا آمنين مطاعين . فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح ، فقيل في المدينة : جاء نبي الله ، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأشرفوا ينظرون ويقولون : جاء نبي الله . فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب ، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم ، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها ، فجاء وهي معه ، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي . قال : فانطلق فهيئ لنا مقيلا . قال : قوما على بركة الله . فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال : أشهد أنك رسول الله ، وأنك جئت بحق ، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم ، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه ، فقال لهم رسول الله : يا معشر اليهود ، ويلكم اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا ، وأني جئتكم بحق ، فأسلموا . قالوا : ما نعلمه – قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار – قال : فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : ذاك سيدنا ، وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : حاشا لله ما كان ليسلم . قال : أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم . قال : يا ابن سلام أخرج عليهم ، فخرج ، فقال : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق . فقالوا : كذبت ، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ الصحيح 7/293 – 294 ح 3911 – ك مناقب الأنصار ، ب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ] .
{ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم }
قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنه قال : بينما رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ، وفرس له مربوط في الدار ، فجعل ينفر ، فخرج الرجل فنظر فلم ير شيئا ، وجعل ينفر ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( تلك السكينة تنزلت بالقرآن ) .
[ الصحيح 8/451 ح 4839 – ك التفسير ، ب { هو الذي أنزل السكينة } . وأخرجه البخاري [ 6/719 ح 3614 – ك المناقب ، ب علامات النبوة في الإسلام ، ومسلم [ الصحيح 1/547 ح 795 – ك صلاة المسافرين ، ب نزول السكينة لقراءة القرآن ] كلاهما من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق به ، وفيه أن القارئ كان يقرأ سورة الكهف .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } وهي الشرك بالله { وكلمة الله هي العليا } وهي : لا إله إلا الله .