السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

قال تعالى : { إلا تنصروه } أي : محمداً صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون { فقد نصره الله } فإنه المتكفل بنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره { إذ } أي : حين { أخرجه الذين كفروا } من مكة حين مكروا به حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه { ثاني اثنين } أي : أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى : { إذ } بدل من إذ قبله { هما في الغار } أي : غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى : { إذ } بدل ثان { يقول } صلى الله عليه وسلم { لصاحبه } أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا { لا تحزن } والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما لك » فقال : بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : «لا تحزن » { إن الله معنا } فقال له أبو بكر : وإنّ الله لمعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نعم » فجعل يمسح الدموع عن خدّه .

وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .

وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أعم أبصارهم » فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحداً ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت .

تنبيه : دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إنّ الله معنا » ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً ومنها أن قوله : «لا تحزن » نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام .

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر : ( أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض ) قال الحسن بن الفضل : من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً واختلف في عود الضمير في قوله تعالى : { فأنزل الله سكينته } أي : طمأنينته { عليه } هل هو للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لأبي بكر رضي الله عنه ؟ رجح الثاني لوجوه : الأوّل : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال : { إذ يقول لصاحبه } والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه . والثاني : أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان آمناً ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر : لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب . الثالث : إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول صلى الله عليه وسلم لوجب أن يقال : إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان خائفاً لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : «لا تحزن إنّ الله معنا » فمتى كان خائفاً لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعاً إلى الرسول لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه : «لا تحزن » فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت : لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان ) فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ) فقال أبو بكر : وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال : «نعم » فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر ، قالت عائشة : فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر : والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( أخرج من عندك ) فقال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال : «قد أذن لي في الخروج » فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ، قال : «نعم » قال أبو بكر : فخذ إحدى راحلتيّ هاتين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بالثمن » قالت عائشة : فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً عارفاً بالهداية وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام فقربت بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم الآمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إنّ قومك جعلوا فيك الدية وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً أقبلوا من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرّة فأخذ بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام في بني عمرو بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مكان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان مربد تمر لسهل وسهيل فساومهما صلى الله عليه وسلم ليتخذه مسجداً فقالا بل نهبه لك يا رسول الله ، ثم بناه مسجداً وصار صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن :

هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول أيضاً :

إنّ الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجرة

قال ابن شهاب : لم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا فإظهار خروجه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مما يدل على فضيلته وفضائله رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين وفيما ذكرناه كفاية . وأمّا الضمير في قوله تعالى : { وأيده } فاتفقوا أنه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو معطوف على قوله تعالى : { فقد نصره الله } .

{ بجنود لم تروها } أي : من الملائكة الكرام في الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وجميع مواطن قتاله { وجعل كلمة } أي : دعوة { الذين كفروا } إلى الكفر { السفلى } أي : المغلوبة فخيب سعيهم وردّ كيدهم { وكلمة الله } أي : إلى الإسلام { هي العليا } أي : الغالبة الظاهرة وقيل : كلمة الذين كفروا ما كانوا قدرها بينهم من الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمة الله هي ما وعده بالنصر والظفر بهم فكان ما وعده الله تعالى حقاً وصدقاً { والله عزيز } في ملكه { حكيم } في أمره وتدبيره لا يمكن أن ينتقض شيء من مراده فلا محيص عن نفوذ ما أراده .