قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية } . وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى ، تقديره ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) وهل رأيت الذي مر على قرية ؟ وقيل : تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية ؟ واختلفوا في ذلك المار ، فقال قتادة وعكرمة والضحاك : هو عزيز بن شرخياً ، وقال وهب بن منبه ، هو أرمياء بن حلقيا ، وكان بن سبط هارون ، وهو الحضر وقال مجاهد : هو كافر شك البعث . واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة : هي بيت المقدس ، وقال الضحاك : هي الأرض المقدسة ، وقال الكلبي : هي دير سابر أباد ، وقال السدي : مسلم أباد ، وقيل :دير هرقل ، وقيل : هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل : هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس .
قوله تعالى : { وهي خاوية } . ساقطة يقال : " خوي البيت " بكسر الواو يخوي خوى ، مقصوراً إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواءً ممدوداً إذا خلا .
قوله تعالى : { على عروشها } . سقوفها ، واحدها عرش وقيل : كل بناء عرش ، ومعناه : أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها .
قوله تعالى : { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } . وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل ، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى أرمياء : أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي ، فقال أرمياء : إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخذول إن لم تنصرني ، فقال الله عز وجل : أنا ألهمك ، فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال في آخرها عن الله تعالى : " وإني أحلف بعزتي لأقبضن لهم فتنة بتحير فيها الحكيم ، ولأسلطن عليهم جباراً فارسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم " ، ثم أوحى الله تعالى إلى إرمياء " إني مهلك بني إسرائيل ، وبافث من أهل بابل " ، وهم من ولد بافث ابن نوح عليه السلام ، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه ، فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه : يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى : وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ، ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه ، فقال : لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك ، وكان ملكاً صالحاً . فاستبشر وفرح فقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته . ثم إ نهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقل الوحي ، ودعاهم الملك إلى التوبة ، فلم يفعلوا ، فسلط الله عليهم بختنصر ، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر ، فقال لأرمياء : أين ما زعمت أن الله أوحى إليك ؟ فقال أرمياء : إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكاً قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم ، ولم آت إليهم إلا حسناً ، ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطاً لي فأفتني فيهم ، قال : أحسن فبما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير . فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي ؟ فقال له أرمياء : أما طهرت أخلاقهم بعدلك ؟ قال : يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل ، فقال له النبي أرمياء عليه الصلاة والسلام : ارجع إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم ، فانصرف الملك ، فمكث أياماً وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء : يا نبي الله أين ما وعدك الله ؟ قال : إني بربي واثق ، ثم أقبل الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ فقال : أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين ، فقال النبي : ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، فقال النبي : على أي عمل رأيتهم ؟ قال : على عمل عظيم من سخط الله ، فغضب الله وأتيتك لأخبرك ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبياً إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم ، فقال أرمياء : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم ، فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء ، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك ، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه ، وأن ذلك السائل كان رسول ربه ، فطار أرمياء حتى خالط الوحوش . ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملؤوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً قتلهم ، وثلثاً سباهم ، وثلثاً أقرهم بالشام ، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم ، فلما ولى عنهم بختنصر راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة ، وسلة تين حتى غشي إيلياء ، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .
وقال الذي قال إن المار كان عزيراً : وأن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة ، واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة ، وفضل العصير في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : ( نى يحيي هذه الله بعد موتها ) قالها تعجباً لا شكاً في البعث .
رجعنا إلى حديث وهب قال : ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام ، وأمات حماره ، وعصيره وتينه عنده ، فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ، وذلك ضحىً ، ومنع الله السباع والطير لحمه ، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له فوشك فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان ، فانتدب الملك بألف قهرمان ، مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل ، وجعلوا يعمرونه ، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل ، ولم يمت ببابل أحد وردهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه ، وعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه ، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه ، وسائر جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه ، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتاً من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها إلى بعض ، واتصل بعضها ببعض ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً ، فكانت كذلك ثم نودي : إن الله يأمرك أن تحيا ، فقام بإذن الله ونهق ، وعمر الله أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك .
قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } . أي أحياه .
قوله تعالى : { قال كم لبثت } . أي : كم مكثت ؟ يقال : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله ، كم لبثت ؟ .
قوله تعالى : { قال لبثت يوماً } . وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً وهو يرى أن الشمس قد غربت ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس .
قوله تعالى : { أو بعض يوم } . بل بعض يوم .
قوله تعالى : { قال } . له الملك .
قوله تعالى : { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } . يعني التين .
قوله تعالى : { وشرابك }ز يعني العصير .
قوله تعالى : { لم يتسنه } . أي لم يتغير ، فكان التين كأنه قطف من ساعته ، والعصير كأنه عصر من ساعته . قال الكسائي : كأنه لم تأت عليه السنون . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب " لم يتسن " بحذف الهاء في الوصل وكذلك ( فبهداهم اقتده ) . وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلاً ووقفاً ، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال : أصله " يتسنى " فحذف الياء بالجزم ، وأبدل منه هاء في الوقف ، وقال أبو عمرو : هم من التسنن بنونين : وهو التغير كقوله تعالى : ( من حمإ مسنون ) أي متغير فعوضت من إحدى النونين ياء كقوله تعالى : ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) أي يتمطط ، وقوله ( وقد خاب من دساها ) وأصله " دسسها " ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل وهذا على قول من جعل أصل السنة " السنهة " وتصغيرها سنيهة ، والفعل من المسانهة وإنما قال : لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين ردا للمتغير إلى أقرب اللفظين به ، وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر .
قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } . فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم ، والجلد وأحياه وهو ينظر .
قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } . قيل الواو زائدة مقحمة . وقال الفراء : أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه : ولنجعلك آية ، عبرة ودلالة على البعث ، بعد الموت قاله أكثر المفسرين ، وقال الضحاك وغيره : إنه عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية .
قوله تعالى : { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } . قرأ أهل الحجاز والبصرة " ننشرها " بالراء معناه نحييها يقال : أنشر الله الميت إنشاراً ونشرة ونشوراً قال الله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقال في اللازم ( وإليه النشور ) وقرأ الآخرون : بالزاي أي نرفعها من الأرض ، ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض ، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه ، يقال : أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع . واختلفوا في معنى الآية ، فقال الأكثرون : أراد به عظام حماره ، وقال السدي : إن الله تعالى أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فبعث الله تعالى ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، وقد ذهبت بها الطير والسباع ، فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم .
قوله تعالى : { ثم نكسوها لحماً } . ثم كسا العظام لحماً ودماً ، فصار حماراً لا روح فيه ، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الخمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله . وقال قوم : أراد به عظام هذا الرجل ، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه ، وسائر جسده ميت ، ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه ، حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ، ونظر الرمة في عنقه جديدة لم تتغير ، وتقدير الآية : وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وهذا قول قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، لما أحيا الله تعالى عزيراً بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته ، فأنكره الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير ؟ قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً قال : فإني أنا عزير ، قالت : سبحان الله : فإن عزيراً قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال : فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني ، قالت : فإن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية ، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله تعالى ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة ، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير ، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، فنادت : هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها ، فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه ، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير .
وقال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق ، فبكى عزير على التوراة ، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة ، وبعثه نبياً ، فقال : أنا عزير فلم يصدقوه فقال : إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا : أملها علينا ؟ فأملاها عليهم من ظهر قلبه ، فقالوا : ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعد ما ذهبت إلا أنه ابنه ، فقالوا : عزير ابن الله ، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : { فلما تبين له } . ذلك عياناً .
قوله تعالى : { قال أعلم } . قرأ حمزة والكسائي مجزوماً موصولا على الأمر على معنى : قال الله تعالى له : اعلم ، وقرأ الآخرون " أعلم " بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال : لما رأى ذلك أعلم .
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى :
( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه . قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! قال : بل لبثت مائة عام . فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ؛ وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . .
من هو ( الذي مر على قرية ) ؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها ؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئا ، ولو شاء الله لأفصح ، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن . فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال . إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا . مشهد الموت والبلى والخواء . . يرتسم بالوصف : ( وهي خاوية على عروشها ) . . محطمة على قواعدها . ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية . هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .
إن القائل ليعرف أن الله هناك . ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء . . وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته ، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر .
( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .
كيف تدب الحياة في هذا الموات ؟
( فأماته الله مائة عام . ثم بعثه ) . .
لم يقل له كيف . إنما أراه في عالم الواقع كيف ! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي ، ولا حتى بالمنطق الوجداني ؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان . . إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة ، التي يمتلىء بها الحس ، ويطمئن بها القلب ، دون كلام !
( قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! ) . .
وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي ؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة ؛ فهو يخدع ويضل ؛ فيرى الزمن الطويل المديد قصيرا لملابسة طارئة ؛ كما يرى اللحظة الصغيرة دهرا طويلا لملابسة طارئة كذلك !
( قال : بل لبثت مائة عام ) . .
وتبعا لطبيعة التجربة ، وكونها تجربة حسية واقعية ، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام . . هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه ، فلم يكونا آسنين متعفنين :
( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) . .
وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره :
( وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) أية عظام ؟ عظامه هو ؟ لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم - للفت هذا نظره عندما استيقظ ، ووخز حسه كذلك ، ولما كانت إجابته : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) .
لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت . ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة ، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى ، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن . ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد ، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة ، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء ، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد ؛ وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها !
أما كيف وقعت الخارقة ؟ فكما تقع كل خارقة ! كما وقعت خارقة الحياة الأولى . الخارقة التي ننسى كثيرا أنها وقعت ، وأننا لا ندري كيف وقعت ! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله . . وهذا " دارون " أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة ، ويتعمق أغوارها قاعا قاعا ، حتى يردها إلى الخلية الأولى . . ثم يقف بها هناك . إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى . ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري ، والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحا شديدا . وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى . لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة ! فإذا به يقول : " أن تفسير شؤون الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت ! " . .
أي وضع ميكانيكي ! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضا أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر !
وإنه - هو نفسه - ليجفل من ضغط المنطق الفطري ، الذي يلجيء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى ، فيرجع كل شيء إلى " السبب الأول " ! ولا يقول : ما هو هذا السبب الأول ؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة ، ثم يملك - حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل - توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعدا ، دون أي طريق آخر غير الذي كان ! إنه الهروب والمراء والمحال ! ! !
ونعود إلى خارقة القرية لنسأل : وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئا ويترك شيئا في مكان واحد وفي ظروف واحدة ؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة .
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة . . طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونا كليا لازما ملزما لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه ! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة : خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو " العلمية ! " على الله سبحانه ! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة :
فأولا : ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه ؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل ، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك ؟
وثانيا : فهبه قانونا من قوانين الكون أدركناه . فمن ذا الذي قال لنا : إنه قانون نهائي كلي مطلق ، وأن ليس وراءه قانون سواه ؟
وثالثا : هبه كان قانونا نهائيا مطلقا . فالمشيئة الطليقة تنشىء القانون ولكنها ليست مقيدة به . . إنما هو الاختيار في كل حال .
وكذلك تمضي هذه التجربة ، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد ، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح . وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبا . حقيقة طلاقة المشيئة ، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به ، لتتعلق بالله مباشرة ، من وراء الأسباب الظاهرة ، والمقدمات المنظورة . فالله فعال لما يريد . وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة :
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ }
عطفت { أو } في هذه الآية على المعنى( {[2494]} ) ، لأن مقصد التعجيب في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } [ الآية : 258 ] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج ، ثم جاء قوله { أو كالذي } ، عطفاً على ذلك المعنى( {[2495]} ) ، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أوَ كالذي مر » بفتح الواو ، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير( {[2496]} ) ، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب( {[2497]} ) وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك : الذي مر على القرية هو عزير ، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر : هو أرمياء ، وقال ابن إسحاق : أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، قال الفقيه أبو محمد : وهذا كما تراه ، إلا أن يكون اسماً وافق اسماً ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه( {[2498]} ) ، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه السلام . قال أبو محمد : واختلف في القرية أيما هي ؟ فحكى النقاش أن قوماً قالوا هي المؤتفكة . وقال ابن زيد : إن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله : { موتوا } [ البقرة : 243 ] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } ، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة ، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان ، وعلى نفس القول( {[2499]} ) هي إلى العظام والأجساد . وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها . والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان . وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة الربيع : القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل( {[2500]} ) . حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها ، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار ، ومنه قوله تعالى :
{ ومما يعرشون }( {[2501]} ) [ النحل : 68 ] قال السدي( {[2502]} ) : يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت ، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة ، قال أبو محمد : وانظر استعمل العريش مع على ، في الحديث في قوله ، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر( {[2503]} ) ، و { خاوية } معناه خالية ، يقال خوت الدار تخوي خواء وخوياً ويقال خويت قال الطبري : والأول أفصح وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } معناه من أي طريق وبأي سبب ؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه( {[2504]} ) ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله ، إنما كان عن إحياء الموتى من بنى آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها ، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول( {[2505]} ) شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها ، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر( {[2506]} ) ، والصواب أن لا يتأول في الآية شك ، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه ، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبراً فقال ، { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } ؟ قال : { فأماته الله } تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه ، وقيل تبن وعنب ، وكان معه ركوة من خمر ، وقيل من عصير وقيل ، قلة ماء هي شرابه ، وبقي ميتاً مائة عام ، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره ، وروي أنه بلي دون الحمار ، وأن الحمار بقي حياً مربوطاً لم يمت ولا أكل شيئاً ولا بليت رمته ، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير( {[2507]} ) ، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة ، وحينئذ حيي عزير ، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة ، لأنه بقي سبعين ميتاً كله ، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية ، وقوله تعالى : { ثم بعثه } ، معناه : أحياه وجعل له الحركة والانتقال ، فسأله الله تعالى بواسطة الملك { كم لبثت } ؟ على جهة التقرير ، و { كم } في موضع نصب على الظرف ، فقال : { لبثت يوماً أو بعض يوم } ، قال ابن جريج وقتادة والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب ، فظن هذا اليوم واحداً فقال { لبثت يوماً } ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال : { أو بعض يوم } فقيل له { بل لبثت مائة عام } ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش : العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى :
{ وكل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه هذا معنى كلام النقاش . والعام على هذا كالقول والقال( {[2508]} ) . وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد ، وروي في قصص هذه الآية : أن الله بعث لها ملكاً من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع : { لبثت } في كل القرآن بإظهارالثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء ، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز ، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، بالإدغام في كل القرآن ، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتقف الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان( {[2509]} ) ، قال أبو علي : ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة » .
{ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير ، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه . هذا على أحد التأويلين( {[2510]} ) . وعلى التأويل الثاني : وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه . وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه » ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة »( {[2511]} ) ، قال أبو علي : واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل : { لم يتسنه } و { اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، و { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ] و { سلطانيه } [ الحاقة : 29 ] { وما أدراك ماهية } [ القارعة : 10 ] وإسقاطها في الوصل ، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف . فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، وكان الكسائي يحذفها في { يتسنّه } ، و { اقتده } ، ويثبتها في الباقي . ولم يخلتفوا في { حسابيه } [ الحاقة : 20-26 ] و { كتابيه } [ الحاقة : 19-25 ] أنهما بالهاء في الوقف والوصل( {[2512]} ) ، و { يتسنّه }( {[2513]} ) يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد ، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم .
وقال الزجّاج : ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض ، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن . قلبت النون ياء كما فعل في تظننت ، حتى قلت لم أتظنن ، فيجيء تسنن تسنى . ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن( {[2514]} ) . ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت . وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل . ويحتمل { يتسنه } أن يكون من السنة وهو الجدب . والقحط ، وما أشبهه ، يسمونه بذلك . وقد اشتق منه فعل فقيل : استنّوا( {[2515]} ) ، وإذا كان هذا( {[2516]} ) أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضاً الهاء هاء السكت ، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه ، أو لم تغيره السنون والأعوام . وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات ، وقال أسنهت عند بني فلان( {[2517]} ) وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر :
وليست بسنهاء ولا رجبية . . . ولكن عرايا في السنين الجوائح( {[2518]} )
فإن( {[2519]} ) القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد ، وهي لام الفعل ، وفيها ظهر الجزم ب { لم } ، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقد ذكر( {[2520]} ) . وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه » على الإدغام .
وقال النقاش : { لم يتسنه } معناه : لم يتغير من قوله تعالى : { ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] ، قال أبو محمد : ورد النحاة على هذا القول ، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، وأما قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } ، فقال وهب بن منبه وغيره : المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً ، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة ، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً ، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح ، فقام الحمار ينهق ، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضاً أنهما قالا : بل قيل له وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة ، قالا : وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه( {[2521]} ) ، قالا : وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيراً اختصرته لعدم صحته ، وقوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا( {[2522]} ) ، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً ، وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة ، وقال غير الأعمش : بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حياً من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي إماتته هذه المدة ، ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر ، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض .
وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال : هي عظام نفسه ، ومن قال : هي عظام الحمار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «نَنْشُرُها » بضم النون الأولى وبالراء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي . «ننشزها » بالزاي ، وروى أبان عن عاصم «نَنشرُها » بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء ، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة . فمن قرأها «نُنشرها »( {[2523]} ) بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها . يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، قال الله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره }( {[2524]} ) [ عبس : 22 ] .
يَا عَجَبا للميِّت النَّاشِرِ . . . ( {[2525]} )
وقراءة عاصم : «نَنشرها » بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء ، يقال : نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته ، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها ، وغاض الماء وغضته ، ورجع زيد ورجعته . ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر . وأما من قرأ : «ننشزها » بالزاي بمعناه : نرفعها ، والنشز المرتفع من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثَّعْلَبَ الْحَوليَّ فيها كأنَّهُ . . . إذا مَا علا نَشْزاً حِصَانٌ مُجَلَّلُ( {[2526]} )
قال أبو علي وغيره : فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء ، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قُضَاعِيَّةٌ تَأْتي الْكَواهِنَ ناشِزا( {[2527]} )
يقال نشز وأنشزته( {[2528]} ) .
قال القاضي أبو محمد : ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع ، وقال النقاش : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت ، من ذلك نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك( {[2529]} ) ، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا }( {[2530]} ) [ المجادلة : 11 ] أي فارتفعوا شيئاً شيئاً كنشوز الناب . فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع . ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز . وقرأ النخعي «نَنشُزُها » بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة . وقرأ أبي بن كعب : «كيف ننشيها » بالياء . والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها ، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي . . . حتى اكتسيتُ من الإسلامِ سربالا( {[2531]} )
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري : المعنى في قوله { فلما تبين له } أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، { قال أعلم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «أعلمُ أن » مقطوعة الألف مضمومة الميم . وقرأ حمزة والكسائي : «قال اعلم أن الله » موصولة الألف ساكنة الميم . وقرأها أبو رجاء ، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش ، «قيل أعلم » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له . والأولى( {[2532]} ) بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير . وهذ عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري . بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله : الله لا إله إلا هو ونحو هذا . وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يعني علم المعاينة ، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما ، قال الملك له «اعلم » ، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : «اعلم »( {[2533]} ) وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى : [ البسيط ]
ودّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2534]} )
ألمْ تَغْتَمِضْ عَيْناكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا ؟ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2535]} ) [ الطويل ]
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس( {[2536]} ) أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر : [ الطويل ]
تَذّكَّرَ مِنْ أَنّى ومِنْ أَيْنَ شُرْبُه . . . يؤامِرُ نَفْسيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الآبل( {[2537]} )
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} نظير الذي عنى بقوله: {ألَمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهَ} من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} عطف على قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ}. وإنما عطف قوله: {أوْ كالّذِي} على قوله: {إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما، لأن قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} بمعنى: هل رأيت يا محمد كالذي حاجّ إبراهيم في ربه، ثم عطف عليه بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «الكاف» في قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاجّ إبراهيم، أو الذي مرّ على قرية. وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف أهل التأويل في الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فقال بعضهم: هو عُزَيْر.
وقال آخرون: هو إرميا بن حلقيّا. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها، حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البيان على اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون إرميَا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك. وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوّته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
واختلف أهل التأويل في القرية التي مرّ عليها القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؛ فقال بعضهم: هي بيت المقدس. مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر.
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا. والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} سواء لا يختلفان.
{وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها}: وهي خالية من أهلها وسكانها...وأما العروش: فإنها الأبنية والبيوت، ومنه قول الله تعالى ذكره: {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} يعني يبنون، ومنه قيل عريش مكة، يعني به: خيامها وأبنيتها.
قال ابن عباس: خاوية: خراب. قال ابن جريج: بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلة والمال ما كان! فحزن.
{قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ}.
ومعنى ذلك فيما ذكرت: أن قائله لما مرّ ببيت المقدس، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهده عامرا، قال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؟ فقال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكّا في قدرة الله على إحيائه. فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه. وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويا على عروشه، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل. فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان من شرابه وطعامه، ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره، فلما رأى ذلك قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ}: ثم أثاره حيا من بعد مماته.
{كَمْ لَبِثْتَ}: كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، وتأويله: قال الله له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم. وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر. وإنما قال: {لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: أو بعض يوم، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: {وأرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ} بمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: {أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} رجوعا منه عن قوله: {لَبِثْتُ يَوْما}. فقال: بل لبثت مائة عام.
{فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ}: لم تغيره السنون التي أتت عليه. وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زقّ من عصير. وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر.
{لَمْ يَتَسَنّهْ} لم يأت عليه السنون فيتغير، على لغة من قال: أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ: إذا أقام سنة، فجعل الهاء في السنة أصلاً، وهي اللغة الفصحى، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله {لَمْ يَتَسَنّهْ}؛ فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير. وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
{وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ}: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارك، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما.
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل؛ فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويّا، ثم أراد أن يحيي حماره¹ تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مستنكرا إحياء الله إياها... فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض، وقد كان مات معه بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولنجعلك آية للناس. فيكون في قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ} متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} بدلاً من الهاء المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه: يعني إلى عظام الحمار.
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سوّاه خلقا سويا، وقبل أن يحيى حماره. وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة، ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائلَ {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمر دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة.
{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ}؛ أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} وهو بمعنى «كي»... وإنما عنى بقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً}: ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكّ في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كله، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدم عليه من قومه. والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم.
{وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}: قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره.
{كَيْفَ نُنْشِزُها}: فإن القراء اختلفت في قراءته؛ فقرأ بعضهم: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم. وأصل النشز: الارتفاع، ومنه قيل: قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ، ومنه نشوز المرأة على زوجها، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز، فإذا أردت أنك رفعته، قلت: أنشزته إنشازا، ونشز هو: إذا ارتفع. فمعنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسم.
عن ابن عباس في قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُها} كيف نخرجها.
عن السدي: {كَيْفَ نُنْشِزُها} قال: نحركها.
وقرأ ذلك آخرون: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما. قال ابن زيد في قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» قال: كيف نحييها.
واحتجّ بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} فرأى أن من الصواب إلحاق قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» به. وقرأ ذلك بعضهم: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون من أوله وبالراء كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيّه. وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول: أنشر الله الموتى، فنَشَرُوا هم بمعنى: أحياهم فحيوا هم. ويدلّ على ذلك قوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} وقوله: {آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}. وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته، قيل: نشر. والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بالصواب على الأخرى. فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: {ثُمّ نَكْسُوها لَحْما} ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، وكان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: «كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. {ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما}: العظام لحما. والهاء التي في قوله: {ثُمّ نَكْسِوها لَحْما} من ذكر العظام. ومعنى نكسوها: نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها، وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة،
{فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قال: أعلم الاَن بعد المعاينة والإيضاح والبيان أن الله على كل شيء قدير.
ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله: {قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ}؛ فقرأه بعضهم: «قال اعْلَمْ» على معنى الأمر بوصل الألف من «اعلم»، وجزم الميم منها. وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله: «قيل اعْلَمْ» على وجه الأمر من الله للذي أحيى بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك رُوي عن ابن عباس.
فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبين من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صرف متأول قوله: «قال اعلم» وقد قرأه على وجه الأمر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلم أن قد كان كذا وكذا، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
وقرأ ذلك آخرون: {قالَ أعْلَمُ} على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم. بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال أليس ذلك: أعلم الاَن أنا أن الله على كل شيء قدير. وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «اعْلَمْ» بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شيء قادر كذلك.
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولاً للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به، وذلك قوله: {فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ... وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}! قال الله له: اعلم أن الله الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: {رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}: {وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم، فكذلك أمر الذي سأل فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: {أَنَّى يُحْيي} اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان...
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني: وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
أما قوله تعالى: {ثم بعثه} فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال {ثم بعثه} ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله {ثم بعثه} يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة، وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه، وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه معبراً في كل منها بما اقتضاه حاله وأشعر به سؤاله، فعبر في الكافر ب"إلى" إشارة إلى أنه في محل البعد عن المخاطب صلى الله عليه وسلم، وفي المتعجب بإسقاطها إسقاطاً لذلك البعد، وفي المسترشد المستطلع ب"إذ" كما هي العادة المستمرة في أهل الصفاء والمحبة والوفاء فأتبع التعجيب من حال المحاجج التعجيب أيضاً من حال من استعظم إحياءه تعالى لتلك القرية.
ولما كان معنى {ألم تر} هل رأيت لأن هل كما ذكر الرضى وغيره تختص مع كونها للاستفهام بأن تفيد فائدة النافي حتى جاز أن يجيء بعدها {إلا} قصداً للإيجاب كقوله سبحانه تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وقوله سبحانه وتعالى {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3]...
قال الحرالي: وفي لفظة "أنى" لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان، ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف ما لا يصل إليه علمها...
{وانظر إلى العظام} أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته {كيف ننشزها} قال الحرالي: بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه، وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه...
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفاً بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذاراً عن تعبيره في التعجيب بما دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعاداً لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه {أن الله} أي لما أعلم من عظمته {على كل شيء} أي من هذا وغيره {قدير}
قال الحرالي: في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقاً لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك، فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله، فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل...
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ له معطوفٌ على الموصول السابق، وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر...
والمعنى أَوَ لَمْ تَرَ إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدتَه فإذن لا ريب في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ...
فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ} وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته وسهولةِ تأتِّيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال، {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له بعد بعثه؟ فقيل: قال: {كَمْ لَبِثْتَ} ليُظهرَ له عجزَه عن الإحاطة بشؤونه تعالى وأن إحياءَه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائع آثارِ قُدرتِه تعالى وهو إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغيّرٍ ما، وكم نُصبَ على الظرفية مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتاً لبِثَ والقائلُ هو الله تعالى أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى...
وقولُه عز وجل: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق، أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي، أو متعلقٌ بفعل مقدرٍ بعده، أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره...
{قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ {قَدِيرٌ} لا يستعصي عليه أمرٌ من الأمور، وإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على أن علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل، بل إنما تبدل بالعِيان وصفُه، وفيه إشعارٌ بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً للأمر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والقرية –بالفتح- الضيعة والمصر الجامع، وأصل معنى المادة: الجمع ومنه قرية النمل لمجتمع ترابها ويعبر بالقرية عن الأمة...
{قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها} يتعجب من ذلك ويعده غريبا لا يكاد يقع {فأماته الله مئة عام ثم بعثه} قالوا معناه ألبثه مئة عام ميتا. وذلك أن الموت يكون في لحظة واحدة قال الأستاذ الإمام: وفاتهم أن من الموت ما يمتد زمنا طويلا وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرة، وهو ما كان لأهل الكهف وقد عبر عنه تعالى بالضرب على الآذان.
أقول: ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت. وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [العنكبوت: 42] والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي قبضها فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها...
قال الأستاذ الإمام: إنه بعد أن أراه الآية التي تكون حجة خاصة لمن رآها نبهه إلى الحجة العامة والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتج به على البعث في كل زمان ومكان وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فالإنشاء معناه التقوية والإنشاز معناه التنمية لأن الذي ينمو يعلو ويرتفع، كانه يقول كما أطلعناك على بعض الآيات الخاصة التي تدلك على قدرتنا على البعث نهديك إلى الآية الكبرى العامة وهي كيفية التكوين. وإنما كانت هي الآية العامة لأن القرآن يحتج بها على جميع الخلق بمثل قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29] وقوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] وقوله في آيات تبين تفصيل كيفية البدء: {فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما} [المؤمنون: 14]. أقول: ويؤيد هذا التفسير قراءة أبي رضي الله عنه "وانظر إلى العظام كيف ننشيها "من الإنشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:... فلنقف نحن -على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا. مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف: (وهي خاوية على عروشها).. محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية. هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر. (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ (فأماته الله مائة عام. ثم بعثه).. لم يقل له كيف. إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان.. إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلىء بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم بعثه}: أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر... وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة، وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر، وأحيى حماره بالإعادة، فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والقرية: المدينة من القَرْي بمعنى الجمع؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم...
و موت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران؛ لأنه لا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران. سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية...
وفي ذلك تصوير للإنسان بأن الموت يشبه النوم والبعث يشبه اليقظة بعد النوم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جمع قريش عندما دعاهم دعوة الحق:"والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا"...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة...
ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل... وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أن ذلك مما كان وارداً في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا. وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عندما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى.
فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّاً لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل؛ لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين؛ لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها. ولقد أُريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلاً، فالقصة لم تكون مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.
ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يُحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير 259} وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ ب (أو)، وما بعد (أو) يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (ألم تر) إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة (قرية) فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: (أنّى يُحيي هذه الله).. يعني: كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف على الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث...
ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير). ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين. إذن ف (أعلم أن الله على كل شيء قدير) هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين. وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة. ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تُبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة. وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف. فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها...