تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

ثم ساقت السورة الكريمة قصتان تدلان أبلغ الدلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث والنشور استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :

{ أو كالذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية لناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموت قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ ربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتيك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم }

قال الألوسي ما مخلصه قوله : { او كالذي مر على قرية } . معطوف على ما سبقه وهو قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } والكاف اسمية بمعنى بمثل معمولة لأريت محذوفا أي أو أرأيت الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية . . وقيل إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل أرأيت شيئا عجيبا كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مر على قرية . . " .

و الذي مر على قرية هو عزيز بن شريحا وقيل حزقيال بن بوزى وقيل غير ذلك والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان خربها " بختنصر " البابلي . . والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لانه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن وجملة { وهي خاوية على عروشها } في موضع الحال من الضمير المستتر في " مر " الواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من القرية وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت . . ومعنى وهي خاوية على عروشها أن جدرانها ساقطة أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها أصبحت خاوية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو فيقال خوت الدار وخويت تخوي خلاء إذا سقطت وخلت العروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش وكل شيء يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش وعرش .

و قوله تعالى : { قال أني يحيي هذه الله بعد موتها } حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيما رأى من مظاهر الخراب والدمار .

و المعنى أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حيطانها على سقوفها وفارغة ممن كان يسكنها فهاله أمرها وراعه شأنها وقال على سبيل التعجب كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها ؟ بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ويجعلها عامرة بسكانها الذين خلت منهم ؟ فقوله : { أني يحيي هذه القرية بعد موتها }بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أني هنا بمعنى متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .

و قال القرطبي : قوله : { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } معناه من أي طريق وبأي سبب متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .

و قال القرطبي قوله : { قال أني يحيي هذه الله بعد موتها } معناه من أي طريق وبأي سبب وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي تبعد أن تعمر هذه بعد خرابها فكان هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته . . " ( 25 ) .

و قوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإعادة لا أصل الإعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها وتشوق إلى عمارتها واعتراف العجز عن طريق الإحياء فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل كانت كما حكاها القرآن : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } .

أي بعد ان قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ألبثه الله تعالى في الموت مائة عام " ثم بعثه " أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه قال كم لبثت أي كم مدة من الزمان لبثها على هذه الحال " قال لبثت يوما أو بعض يوم " .

و قال سبحانه : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } ولم يقل ثم أحياه للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإشعار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري سبحانه .

قال ابن الكثير كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه فلما استقل سويا قال الله له بواسطة الملك كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن انها شمس ذلك اليوم فقال أو بعض يوم( 26 ) .

و قوله تعالى : { كم لبثت } استئناف مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثته ؟ فقيل قال كم لبثت وليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استعباده بالمرة .

و كم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : لبثت .

و في هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله تعالى فهو القائل : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ( لقمان : 28 ) .

و في الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعلمون ولتجوزن بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا " .

و قوله تعالى : { قال بل لبثت مائة عام } معطوف على مقدر أي ليس الأمر كما قلت أنك لبثت يوما أو بعض يوم إنك لبثت مائة عام ثم أرشده سبحانه إلى التأمل في أمور فيها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال سبحانه : { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } .

قوله : لم يتسنه } أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه مشتق من السنة والهاء فيه أصيلة إذا قدر لام سنة هاء وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ولقومه سانهته إذا عاملته سنة فسنة وتسنه عند القوم إذا قام فيهم سنة أو الهاء فيه للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا وأصلها سنوة لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات .

و قوله : { ننشزها } أي نرفعها يقال أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه واصله من النشز بفتحتين وبالسكون وهو المكان المرتفع وقرئ ننشزها بضم النون أي نحييها من أنشز الله الموتى أي أحياهم .

و المعنى قال الله تعالى لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصله مما يشهد بأنه مرت عليه السنوات الطويلة .

و قوله : { و لنعجعلك آية للناس } معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق والتقدير فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث .

و قوله : { انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } أي انظر وتأمل في العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها .

و قيل المعنى وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده .

قال ابن كثير قال السدى وغيره تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح في بياضها فبعث الله ريحا فجمعها من كل موضع ثم ركب كل عظم في موضعه ذلك كله بمرأى من العزير .

و جاء الضمير في قوله : { لم يتسنه } بالإفراد مع أن المتقدم طعام وشراب لأنهما متلازمان بمعنى أن أحدهما لا يكتفي به عن الآخر فصار بمنزلة شيء واحد فكأنه قال انظر إلى غذائك .

ثم ختم سبحانه الآية بقوله : { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة وبالمشاهدة الحسية قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن واعتقد أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه لا يعجزه شيء والفاء في قوله فلما تبين له ذلك وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وفاعل " تبين " مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير فلما تبين له كيفية الإحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم ان الله على كل شيء قدير .